بقلم/ د. نجلاء الورداني
في زمنٍ تُثقِل فيه الضوضاءُ الأرواح، وتتناسل فيه الأصوات حتى تكاد تطغى على المعاني، بزغ برنامج "دولة التلاوة" كنافذة مضيئة تعيد للأذن شيئًا من أُنس القرآن وجلال حضوره. بدا المشهد في لحظاته الأولى واعدًا؛ فكرة تتوهّج بقدسية رسالتها، وتحلم بإحياء مدرسة تلاوةٍ أصيلة كان ظلّها الطويل مسندًا للوجدان العربي والإسلامي عبر عقود.
غير أنّ البدايات المشرقة كثيرًا ما تحمل في عمقها ظلالًا لا تتبدّى إلّا مع توالي الخطوات. ومع امتداد حلقات البرنامج، ظهر أنّ هذه “الدولة” التي رُفعت رايتها لتكريم القرّاء، تُهدر— من حيث لا تقصد — أصواتًا كان يمكن أن تشكّل ملامح مدرسة جديدة لو أُتيح لها أن تتنفس خارج ضيق المنافسة. فبدلًا من أن تكون التلاوة فضاءً للتذوّق الروحي، تحوّل المشهد إلى سباق تحكمه نقاط التحكيم، وتُعمِّده تقاليد العرض التلفزيوني، وتعيد صوغ الموهبة كسلعة تخضع لاعتبارات الصورة وإيقاع الإبهار.
والتلاوة — في جوهرها — عبادة لا تعترف بأضواء المسرح. خشوعها لا يُقاس بالتصويت، وصفاؤها لا يُختبر أمام الكاميرات. فالقرآن الذي نزل ليُتلى على قلوب تتطهّر، لا على منصات تتنافس، أسمى من أن يُختزل في دقائق معدودة أو يُحاصر بترتيب “الأفضل والأسوأ”. ومن العسير أن تُحشر الروح في قوالب الأداء، أو أن يُحاكم الصوت القرآني بمنطق الربح والخسارة.
وإن كان البرنامج قد استطاع إعادة الاهتمام بالمقامات والأداء، فإنّ الجانب الاستعراضي سرعان ما طغى على الجانب الروحاني. اختلط جمال الصوت بضرورات الإبهار، وتداخل التكريم مع الاستهلاك، فوجدت التلاوة نفسها — دون قصد — تُروَّض لتلائم إيقاع الشاشة، لا إيقاع القلب.
إنّ الدين، في عليائه، لا يحتاج إلى مسابقات كي ينطق به الناس، ولا إلى لجان تعطيه شهادات اعتماد. وجماله في جوهره كافٍ ليُصغي إليه العالم دون منصّة، ودون ديكور يُجمّله أو سباق يبرهن عليه.
لكن هذا النقد ليس رفضًا، بل دعوة لإعادة ضبط البوصلة. فبرنامجٌ يحمل القرآن عنوانًا يستحق مراجعة تعيد إليه صفاء النية، وتحرّر التلاوة من أن تكون “عرضًا”، وتفتح المجال لاحتضان الأصوات لا استنزافها. إنّ “دولة التلاوة” يمكنها — إن أرادت — أن تتحوّل من مسرحٍ موسمي إلى منارة دائمة؛ من مسابقة عابرة إلى مدرسة ممتدة تكرّم القرّاء جميعًا، لا من يُبقيهم الفرز في دائرة الضوء.
فالجلال الذي يتنزّل مع آيات الله أوسع من زمن البث، وأعمق من ترتيب المتسابقين. وحين يستعيد البرنامج روحه الأولى — روح التكريم لا التنافس، والجوهر لا الإبهار — عندها فقط يمكن أن يقف باعتباره مشروعًا رائدًا يعيد للتلاوة مكانتها، وينقذ الأصوات بدل أن يهدرها، ويخدم الدين بدل أن يحوّله إلى مادة عرض.
مقالة رائعة
ردحذف