بقلم/ أ. د. حسيني عبد المحسن الجندي
التراثَ
العربيّ المخطوط أنفسُ تراثٍ على مستوى العالم.. هو جزء من الذاكرةِ العربيّة..
وقد عرف الغربُ قيمة هذا التراث فنقلوا وهجّروا الآلاف منها إلى مكتباتهم وخاصة
إلى تركيا وفرنسا وأيرلندا وأسبانيا وروسيا.. وللأسف، فإنَّ هذا التهجير لم يكن
إنتقائيًا فحسب، بل كان بشكل عام تهجير مكتبات بالكامل وفي بعض الأحيان تهجير
تبعيضي بمعنى أن المخطوط فقد منه مجلد أو أكثر أو ملزمة أو ملزمتين..
ولعلّ
من أسباب ضياع الموروث الثقافي العربي إما عوامل طبيعية أو عوامل بشرية، ومنها:
تجارة المخطوطات، وحركات الاستشراق، والمغامرين، أو الإهداء من بعض الحكام، كما
حدث من عبّاس الأول لوليّ عهد النمسا.. أو لأسباب إيديولوجية، مثل سرقة التراث
الفلسطيني من أجل تضييع النصوص والحيلولة بينها وبين أصحابها، أو البحث عن حق
تاريخي مزعوم وتوظيف النصوص لفهم معوج.
ومن
المعروف أن وسائل التهجير وسائل غير شرعية مثل: الغصب والسرقة أو المقايضة عند
المجاعات كما حدث في اليمن.
لكن
أكثر من نصف المخطوطات العربية موجودة في الغرب منذ القرن الثامن عشر.. ولعلّ جهود
معهد المخطوطات العربية في نظرته الشمولية التي ألغت الحدود الجغرافية للتراث
العربي تشجّع على العمل المؤسسي في سبيل الحفاظ على التراث.
ويقينًا
فإن أوضاع المخطوطات في مختلف أنحاء بلادنا مبعثرة بين مختلف الجهات والأفراد..
بين المكتبات القومية ومكتبات الجامعات.. وقبلها كانت مكتبات المساجد الكبرى والتي
أصبحت ضمن مخطوطات وزارة الأوقاف في مصر.
وفي
رأيي أن تجميع نفائس المخطوطات كان وما زال محل اهتمام الأفراد، فولعهم بالمخطوطات
شديد.. ومن هنا ظهرت مكتبات خاصة.. بعضها تم ضمه إلى المكتبات الوطنية، وبعضها ما
زالت نفائس مخطوطة تحت أيدي الأفراد في مكتباتهم الخاصة وبالتالي تأبى أن تتنازل
عن أعزّ ما تملكه من التراث المخطوط فأصبح في حكم المهجور.
ومن
صور الهجر التي تتعرّض له المخطوطات في مخازن أي مكتبة: أنَّ بعضها تحوّل إلى مواد
مُتحفيّة إمّا لزخرفتها أو تجليدها والباقي مكدّس في المستودعات دون مراعاة للصفّ
السليم فيكون عُرضةً للحشرات والفئران إلا ما رحم ربي ونالته أيدي الترميم
والإصلاح.
ومن
صور الهجر الذي يتعرّض له تراثنا المخطوط على مستوى التحقيق والنشر:
إحجام
دور النشر وبخاصة الناشرين التجاريين عن نشر الكتب الأساسية الضخمة لزيادة تكاليف
نشرها وقلة عائدها.. ولهذا أهيب بالمراكز المعنيّة بتحقيق التراث إن في دار الكتب أو
جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا أو معهد المخطوطات العربية أوغيرها من الجهات أن تردّ
للمخطوطات اعتبارها وأهيب بها أيضًا ضرورة التنسيق فيما بينها لخدمة التراث.
إن
مهمة الجامعات للقضاء على جريمة هجر المخطوطات يستلزم إتاحة الفرصة للطلاب للتعرّف
على المصادر العربية الأصيلة في مجالات تخصصاتهم وذلك بإدخال مادة المصادر العربية
ضمن برامج الدراسة الجامعية لإقامة الجسور بين الماضي والحاضر بل المستقبل فلا
يمزقهم الشعور بالانفصال، وأن يقوم بتدريس هذه المصادر أساتذة يجمعون بين التخصص
الدقيق والإلمام بما خلّفَهُ أسلافُنا من تراث والإيمان بقيمة هذا التراث ودوره
الحضاري.
إن
يومًا تتقرر فيه دراسة هذه المصادر في كليات الطبّ والصيدلة والهندسة ويومًا يُدرّس
فيه التراث العلمي العربي كما خطّهُ القدماء لهو أسعد الأيام لأنه لا يضيف معارف
وفقط، وإنما يُعزّز الانتماء لتراث الأمة ويُعالج هجره.
كما أن
دور الجامعات ومراكز التراث ليس في جمع التراث وفقط، وإنما في تحقيقه ونشره على
أكتاف أساتذة وباحثين وخبراء.. وليس تجارة يحترفها من لا صلة لهم بتراث الأمة فيشوهون
النصوص والمخطوطات ويفسدونها ويضيّعون معالمها..
نريد للجامعات أن تقوم بدورها في خدمة المجتمع فتنشر النصوص المحققة.. ذلك
وحده يرفع من قدرها كما يرفع من قدر تلك النصوص.
من
أسباب الهجر والزهد في تحقيق التراث:
ـ
الإشفاق من صعوبة التخصص في مجال التحقيق ومن طول الزمن الذي يستغرقه تحقيق المخطوط
ودراسته.
ــــــ
الجهل بقيمة هذا العمل وحدوده.
ـ
الإشفاق من ضيق المجال الوظيفي لمن يتخصص في علم التراث وبخاصّة أنه يصل إلى سمعهم
صيحات الاستنكار للاشتغال بهذا القديم البالي!! وبخاصة أنهم يقرأون ما يكتب وينشر
عن رجعية من يحاولون التنقيب في صناديق أسلافنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ـ ومن
أسباب الهجر والزهد في تحقيق التراث – كما رأى الدكتور حسين نصّار رحمه الله – نظرة
البعض إلى التراث نظرة احتقار ومطالبتهم بإلقائه في غيابات الجُبّ.
ـــــ ومن
أسباب الهجر والزهد في تحقيق التراث أن الترقيات في الجامعات لا تعتبر تحقيق
التراث عملًا علميًا ولا تقدره حق قدره.
ـ ومن
أسباب الهجر والزهد في تحقيق التراث – كما يرى الدكتور جابر عصفور - انحدار
التعليم الخاص والعام الأمر الذي ساعد على تنفير الأجيال الجديدة من هذا التراث، فصار
موضعًا للتندر بسبب لغته العربية؛ تلك اللغة التي وصل الأمر ببعض ممثلي الكوميديا
إلى الاستهزاء منها وتحويلها إلى مصدرٍ للإضحاك.
ـ وفي
النهاية: لم يعد الدافع إلى هجر التراث هو الجهل به والنفور من لغته وإنما أصبح
فعل تمرد ينطوي على الدافع الأُودِيبي لقتل الآباء والأجداد على السواء.
لكننا
في حاجة إلى تقديم التراث بشكل تستثيغه الأذواق المعاصرة والتقديم المتجدد له.. ونحن
بلا شك لن نكون أبناء اليوم إلا إذا كنّا أبناء الأمس.. بقيمنا وأصالتنا وتاريخنا
فنعتزّ بتراثنا ونجدده ولا نهمله.
وخلاصة
القول..
المزادات
التي يتم فيها بيع المخطوطات ليست كلها معلنة وبعضها سرّيّة في عواصم أوربا.. فيجب
على الجهات الحكوميّة مخاطبة الجهات المعنيّة بالدول الأوربية بشأن هذه المخطوطات
المهرّبة والضائعة والإبلاغ عنها كي تقوم بدورها في ردّها في حال العثور عليها أو
اكتشاف تداولها في مزاد علني أو سرّي.
نحن في
حاجة إلى خبراء وثائق يمارسون عملهم في الخارج لتتبع أخبار هذه الوثائق مثل
الدكتورة/ مونيكا حنّا رئيس وحدة الآثار والتراث الحضاري في الأكاديمية العربية
للعلوم والتكنولوجيا والتي كان لها الفضل في تنبيه وزارة الثقافة المصرية إلى (وثيقة
سورة النساء) المعروضة في مزاد سوتبي بلندن، و (مرآة الزمان في وفيات الفضلاء
والأعيان لابن الجوزي) الذي تم ضبطه في مطار القاهرة قبل تهريبه.. و (المختصر في
علم التاريخ للكافيجي) الذي تم إعادته.
وللأسف
الشديد، فمصر بعد اتفاقية اليونسكو 1972 لا تستطيع إعادة تراثها المهجر إلا إذا
كان مسجلًا.. أما غير المسجل وما خرج قبل 1972 فلا نستطيع إعادته.. ولذلك نطالب
بسرعة إعداد قوائم بالتراث الثقافي والطبيعي في بلادنا.
وبهذه
المناسبة، أسوق إليكم أحدث ما تمّ وقف بيعه في مزاد 16 أكتوبر 2018م وهو (أطلس
سيديد العثماني لمؤلفه محمود رئيف أفندي) وهو أطلس يرجع إلى القرن التاسع عشر حيث
عُرض في مزاد بيرلين إلا أن المزاد تم إيقافه بعد تدخل دار الكتب المصرية.
تعليقات
إرسال تعليق