عبد الرحمن هاشم
في زمنٍ تعصف فيه المظاهر والشكليات، وتتراجع فيه الأصول والقيم الروحية، يبرز الدكتور أنس عطية الفقي بوصفه أحد القلائل الذين جمعوا بين العلم والعمل والصفاء، بين النظرية والتطبيق أو التشرّع والتحقّق، بين العطاء الأكاديمي والمقام الروحي المتحرك بين الناس.
لم يكن مجرّد أستاذ جامعي، بل كان مرشدًا روحيًا وأبًا علميًا، تتلمذ على يديه طلاب صاروا علماء، ونهل من شخصيته مريدون قبل أن يكونوا باحثين.
في هذا المقال، نقترب من ملامح هذه الشخصية كما عرفها الناس: في عمله، وفي بيته، وفي مسجده، وبين أهله وأصحابه.
الجذور الأولى
وُلد الأستاذ الدكتور أنس عطية الفقي في محافظة الشرقية، وتحديدًا قرية من قرى الزقازيق (كفر الأشراف)، في بيئة ريفية تجذر فيها القيم الصوفية والتقاليد الدينية. نشأ في كنف أسرة عُرفت بمحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن وأهل الله، وكان منذ صغره مثالًا في دماثة الخلق وحُسن السمت وحب الخير للناس.
في رحاب الآداب
حصل الدكتور أنس على درجته الجامعية من كلية الآداب بجامعة الزقازيق، ثم نال درجتي الماجستير والدكتوراه في علوم اللغة والبلاغة والنقد. عُرف بإتقانه العالي للغة العربية، وتذوقه العميق لنصوصها، وخاصة النصوص التراثية الصوفية.
التراث رسالة حياة
لم يكن اهتمامه بالتراث مجرد دراسة أكاديمية، بل رسالة وجودية. أسهم في تحقيق عدد من كتب التراث النادر، لا سيما في التصوف، وكان يحثّ طلابه على إعادة إحياء الطريق التي ظُلمت أو نُسيت. وقد عُرف بدقته الشديدة، وإخلاصه في توثيق النص، والتزامه بمنهجية مرنة لا تُغفل روح النص ولا منطقه.
في خدمة العلم والمؤسسات
شغل الدكتور أنس منصب مدير مركز التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وكان حريصًا على فتح أبوابه للباحثين من كل التخصصات، مؤمنًا بأن خدمة التراث مسؤولية جماعية. عمل على مد جسور التعاون بين المركز والمؤسسات الدينية الكبرى في مصر، وعلى رأسها الأزهر الشريف ودار الإفتاء، في مشروعات بحثية وتدريبية متنوعة.
رأس تحرير مجلة جامعة مصر للدراسات الإنسانية، كما تولى الإشراف على الأنشطة الثقافية والدينية بالجامعة، وظل يؤدي الدروس الدينية بمسجدها العامر. كما انتدبته أكاديمية الشرطة ليدرس لطلاب الدراسات العليا، وله طريقة في التدريس تجمع بين العذوبة والسهولة والعمق، وتأخذ بمجامع القلوب لِمَا يتخللها من أبيات شعرية جميلة وحِكَم وأمثلة حسية تقريبية بألفاظ واضحة بسيطة ليس فيها تكلف أو تعقيد، وقد اختير محكما للأعمال التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب.
وكما جمع بين فنون التدريس والإلقاء والخطابة والتربية، فهو أيضا شاعر بالفطرة خبير بالأوزان على السليقة؛ أذنه أذن موسيقية تعرف البيت المكسور من البيت السليم، وقلَّ من يحوز هذه الموهبة في مصر الآن. وهو يسمع الغناء الجيد، خاصة الغناء الصوفي، فيحس أنه قد حمله إلى عالم جميل ناءٍ، ويطرب منه ويحاكيه ويجد المتعة في ذلك، ولا يكاد يكف عن “الدندنة” والغناء في أشد أوقاته ضيقًا وحرجا. كل ذلك ملأ نفسه فشع منها الشعور الرقيق والإحساس الفياض.
مزيج من الهيبة والتواضع
كان الدكتور أنس مثالًا للرحمة والتواضع، مهيبًا بغير تكلف، كريمًا بغير إسراف، متوهجا بالخير في كل أوقاته. تتلمذ على يديه مئات من الطلاب الذين أحبوه بصدق، واعتبروه والدًا روحيًا قبل أن يكون أستاذًا جامعيًا.
وهو مثال لأستاذ الجامعة الجاد في عمله، الحريص على بث روح المحبة على من حوله، ويصفه محبوه بأن وجوده بينهم رحمة من الله وعطية فهو اسم على مُسمى؛ إذ لولاه لحلَّت بهم أزمات لا قِبَل لهم بها، ولكنه بحكمته وحنكته وترويه وبُعد نظره يجد لهم المخرج منها وكأنها لم تقع.
وكان دأبه عجيبا، لا يكل من عمل الخير ولا يفتر، حتى وهو في بيته، وكنت أصحبه في كثير من أعماله ومشاويره الدعوية، وكان كثيرًا ما يقهره النعاس أثناء تلاوته للوظيفة وأذكار المساء فلا يتمها وأتركه في رحمة النعاس ما تيسر له من لحظات يفيق بعدها ليجدني مستمر في الذكر فيتمه معي، وكنت أجد من التعب ما لا يجده هو، ولكني أخفي ما في نفسي من تعب اقتداء به وأدبا معه، وكان -بلا شك- ذكيا فطنا لماحا مستوعبا لجميع من حوله ومعه يحتويهم بمقاصد الشرع ومرونة الشريعة وأحكام الواقع. إذا مشى في الشارع، أو دخل على قوم تعلقت به الأنظار في إجلال ومودة، النور يلوح منه ويشع من وجهه، وتقطر صفحته بهاء وسماحة وتواضعا. يزداد وجهه الجميل تألقا وبشاشة عقب كل مساعدة يقدمها للآخرين، شأن الكريم الفاضل يحب الخير ويصنعه، ويزداد بصنعه رضا واطمئنانا.
حباه الله الحكمة وفصل الخطاب؛ أما الحكمة فيبدو أنه قد ورثها عن أمه رحمها الله فيقول في ذلك “لم أجد من النساء أحكم منها.. طوال عمرها اتسمت بالحكمة وتقدير عواقب الأمور والتروي وعدم الاندفاع”، وأما فصل الخطاب فقد جاءه هبة من الله، وبذلك حاز الجلال والبهاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
الصوفية حال لا مقال
لم تكن صوفيته مجرد انتماء فكري، بل كانت حالًا وسلوكًا. عُرف بحبه لآل البيت وتعلقه بأهل الطريق، وكان يرى في التصوف علمًا لتزكية النفس، لا مجرد طقوس أو مظاهر. وكان مجلسه لا يخلو من الذكر والموعظة، وقصائد المديح والهيام في ذكر سيدنا النبي.
امتاز بطلاقة اللسان، وقوة الحجة، والقدرة على اجتذاب انتباه السامعين، والتجرد من السعي للمناصب، والنفع الشخصي، كما امتاز بالتورع عما في أيدي الناس، وصدق المقصد، ونقاء الطوية، وعكس نفسا تجردت فآمنت بالله واجب الوجود عن مشاهدة لا عن سماع، بحيث لا تنظر إلى حول أحد إلا حوله، ولا تستمد قوة إلا من قوته.
إنها نفس مشرقة تحرص على صفّ أقدامها على خطى نفوس الأولياء الذين اتصلوا بروح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد حصرت لها من الحِكَمِ والتأملات البديعة ما أثبته هنا، ومن ذلك:
كن دائما في كنف الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
كيف ينتصر من الخلق من يرى الله فعالا فيهم؟
أعرف الناس بالله أعذرهم لخلقه.
نتوجه إلى الله بالأدب والمحبة.
بحب محمد نتعبد.
معاداة الأولياء تجلب الشقاء.
الطهارة طريق لانشراح الصدر.
نفحات الله في رمضان لا يتعرض لها إلا المخلصون.
بقدر اتباعك لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر ما يظهر فيك من نوره.
متى اجتمع لك أمران أحدُهما ثقيل على النفس فقدِّم ما هو ثقيل على النفس.
رب الأسباب يملك كل باب.
إنما فاز من فاز بصحبة من فاز.
كل من يعشق محمد في أمان وسلام.
يظل السالك يقوم ويقع ويقوم ويقع ثم يقوم فلا يقع.
يجب أن نسكن تحت مجاري الأقدار.
من ظن أن هناك قدرة لمخلوق مع قدرة الخالق فقد أساء الأدب ولم يدرك أن الله أكبر.
جلَّ ربنا أن تُكرر له العبودية بصورة واحدة.. كل يوم هو في شأن.
لك ما نويت (لكل امرىء ما نوى).
الشكر يكون بالعمل لا بالكلام (اعملوا آل داود شكرا).
إذا اتفقت الأصوات الذاكرة لله تعالى صبت عليها الرحمات.
قراءة الفاحة تسدد الدعاء والصلاة على النبي تخفف البلاء وتحقق الرجاء.
مواقف لا تُنسى
أروني شخصًا واحدًا خرج من عنده دون أن يتلقى منه نصيحة أو ترضية أو مساعدة على نحو أو آخر؟ صحيح أن البعض قد يجده جادًا حادًا بعض الشيء عندما يكون مشغولا بإنجاز عمل مهم، لكن هذه الحدة سرعان ما تتبدد ليحل محلها طيبة بالغة مغلفة بالرقة والحنان.
وكم تولى بروحه السمحة وبديهته الحاضرة تلطيف الجو بين المتخاصمين والمتشاحنين أفرادا وعائلات وقام بالدور المنوط بعالم الدين وحكيم القوم كأحسن ما يكون القيام. وإذا حدثتك عن تعهده لأهل بيته وحبه لهم وشغفه بهم أحدثك عن الإيثار والبذل والتضحية والفداء والنصح والشفقة والصبر وكنت دائما أسمعه يقول: الأولاد يتامى بدون أبيهم وإذا كان أبوهم حيَّا لكنه يقتر عليهم ولا يسندهم ولا ينصح لهم ولا يكرمهم فهم يتامى رغم وجوده حيا يرزق.
أما خدمه فأوجز ما يمكن أن يقال في سلوكه معهم أنه اعتبرهم من أهل بيته؛ يجزل لهم العطاء والصلة، ويديم تفقدهم، ويكثر من الجلوس معهم والاستماع لهمومهم ومشاكلهم. ومع عائلته والناس أجمعين يصدق فيه القول المأثور: “المؤمن كالغيث أينما حلَّ نفع”.
كان له قريب بالقرية اسمه الحاج حسن اشتهر بمدح النبي صلى الله عليه وسلم ودار عليه الزمان فبلغ الساعة التي يبلغها كل محتضر على فراش الموت وكان لا يتكلم ولا يتحرك وعندما دخل عليه "أنس" وسمع صوته وأحسَّ به جالسا بجواره مَدَّ له يده ليسلم عليه وظل قابضا عليها وهو ينشد ما كان ينشده في الزمان الأول: أنا بامدح اللي يفوح المسك من قدمه، واللي من لا يصلي عليه، في القلب يا ندمه، عود القنا انحنى ومال، لما باس على قدمه.. وفاضت روح الحاج حسن المدَّاح ويده ضاغطة على يد الدكتور أنس، وهو موقف -بلا شك- كانت تحضره الملائكة.
كان يحب إخواننا السوريين المقيمين بمدينة 6 أكتوبر ويعاملهم معاملة الإنسان العظيم الكريم منذ مقدمهم وحتى عودتهم لديارهم، حتى أن الشيوخ منهم كانوا يدعون الله أن يحفظه ويديمه نعمة عليهم؛ أذكر أن أحدهم قصده كي يُقيم حفل عرسه عنده في البيت وتحديدا في المكان الذي تقام فيه “الحضرة” فرحب بذلك وجهَّز كل شيء لإسعاد العروسين وأسرتيهما، ويشاء العلي القدير أن يقبض روح شقيقته الحاجة "سامية عطية الفقي" قبل الحفل بيوم، فأصرَّ على إتمامه وذهب هو وأسرته إلى قرية كفر الأشراف وصلى على أخته ودفنها في قرية النخاس وقام نحوها بالواجب وفي الوقت الذي كان يتلقى فيه العزاء مساء الإثنين في القرية كان العريس السوري يحتفل بالزواج وتكوين أسرة جديدة!
إرثه العلمي والتربوي
ترك بصمة واضحة في وجدان كل من تعامل معه، سواء من خلال كتبه أو محاضراته، أو حتى دروسه المرئية في وسائل التواصل. لم يكن يُعنى بالمظاهر ولا الألقاب، بل كان حريصًا على جوهر الرسالة التربوية التعليمية. وكان يقول: "الورقة البيضاء لا يملأها الكلام بل الصدق".
حظي باحترام بالغ من علماء العصر البارزين على مختلف تخصصاتهم وقد أتاه الله الحجة البالغة، فلم يستطع أحد منهم أن يعترضه أو يقلل من عظمته.
أما الصغار فقد آذاهم حضوره ونبوغه وتوهجه فكادوا له ما وسعهم الكيد، وأضمروا له العداوة، وأظهروا له الولاء، وما يزالون، ولكن الله يمكر له، وينصره عليهم.
ورغم ما يلقاه من هؤلاء الصغار، فإن شأنه شأن الكبار، يقابل إساءتهم بالإحسان، ويعفو ويصفح، وكان من دعائه لربه "ربي لا تجعلني سببًا في شقاء أحد أو في قطع رزق أحد"، حتى لقد صدق فيه قول شوقي أمير الشعراء:
ونراه أرفعَ أن يقول دنيّة … يوم الخصومة أو يخطّ سبابا
لا يخدمُ الأممَ الرجالُ إذا هُمو … لم يخدموا الأخلاق والآدابا
وهو مدَّاح متمرس تجده يؤدي الإنشاد والمديح بصوته العذب الرقراق فيذكرك بأداء النقشبندي ونصر الدين طوبار، وتجده طوال شهري رمضان وربيع الأنور كأجود ما يكون؛ يبذل علمه وماله ووقته في إقامة مجالس الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحق له أن يلحق بنسبه وأن يتحقق بحسبه وأن يعرفه معرفة المشاهدة.
وهو يحفظ الأوراد الشاذلية وبخاصة حزب البحر والحزب الكبير، كما يحفظ القرآن الكريم، ويجد فيها راحة لقلبه، وسكينة لنفسه، وسؤددا لحياته.
يعزّ عليه أن يجد أحدا من ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتنكب الطريق، فكان يرفق وينصح ويتابع ويُذكِّر بشرف النسب وشرف المُنتسب إليه.
بكم يهتدي يا نبي الهدى … وليٌّ إلى حبكم ينتسب
سل الله يجعل له مخرجا … ويرزقه من حيث لا يحتسب
ويُورد ما سمعه من أن أهل بيت النبي كانوا دائما يرددون:
نحن بالله عزنا، وبالنبي المقرّب … بهما عَزَّ نصرنا، لا بجاه ومنصب
من أراد ذلنا، من قريب وأجنبي … سيفنا فيه قولنا: حسبنا الله والنبي
الخاتمة: إرث لا يُنسى وشهادة للروح
وهكذا، تعلمنا من صحبة الدكتور أنس عطية الفقي أن الطريق إلى القلوب يمر بالإخلاص والتجرّد، وأن العلم إذا لم يقترن بالفهم والأدب، فَقَدَ جلاله وضاع أثره.
ونحن على يقين أن هذه السطور لن تُنصف أنس عطية الفقي كما يجب، لكنها شهادة محبة ووفاء، نثبتها لتبقى في ذاكرة من عرفوه وعاصروه واقتربوا منه سلوكا وحالًا.
وكأننا نراه صورة حية لـ"العالِم الولي" الذي عزّت رؤيته في زماننا. ومهما يكن من شيءٍ فإن إرث محمد ﷺ سيبقى ممتدًا في أمته، وشاهدًا على أن التصوف الأصيل لا يفارق جوهر العلم، بل يمنحه روحه ومعناه.
جزاه الله عنا وعن العلم وأهله خير الجزاء، وجعل مقامه مع أهل الصدق والصفاء.
تعليقات
إرسال تعليق