التخطي إلى المحتوى الرئيسي

«نور الدين» وإرشاد الحائرين


 
بقلم/ أ.د. د. علي محمد جمعة*

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فهذا مقال ليس ككل مقال، فإنه ليس لعرض فكرة جديدة أو الكلام عن مبدأ مهم، لكنه شكر واجب لكل من ساهم فى البيان والتبيين لحقائق الدين، فى عصر اشتدت فيه الفتنة، وكثر فيه الهرج واختلط فيه الأمر. الشكر لجريدة «الوطن» التى قادت هذه الردود الرصينة العلمية، والتى ساهمت مساهمة تذكر، فتشكر للدفاع عن الدين الصحيح، وللدفاع عن الحياة المستقرة، وللدفاع عن النفسية والعقلية، التى تكوّن الشخصية القوية السليمة، وفى حديث سيدنا أبى هريرة الذى أخرجه الإمام مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».

والشكر موصول لكل الأساتذة والعلماء والمفكرين وأصحاب الرأى الذين ساهموا فى عطاءاتهم ومقالاتهم حول برنامج «نور الدين».

برنامج «نور الدين» أعددنا له إعداداً طيباً، وقررنا أن نشتبك مع أسئلة الأطفال والشباب والرجال والنساء فيما يختص بعصرنا الحاضر، وهو خطوة فى طريق طويل، وقطرة من غيث منهمر «وأول الغيث قطر ثم ينهمر»، القصد منه هو إرشاد الحائرين، وهو الإجابة التى توصل إليها العلماء عبر القرون، لكنها ظلت مختفية ومغلفة بمصطلحات لا تصل إلى أسماع ولا عقول ولا قلوب الناس، وعندما كان الأطفال يسألون -بل والكبار- كانت الإجابات باهتة ومحيرة، ويزداد الأمر صعوبة فى التطبيق العملى، ولذلك قررنا ونزلنا وسمعنا من طائفة كبيرة من هذه الشريحة (الأطفال والشباب والرجال والنساء)، ما الذى يشغل البال؟ وما الذى يلفت الأذهان؟ وخرجنا بأكثر من مائة وخمسين سؤالاً لم تتسع أوقات حلقات برنامج «نور الدين» أن تستوعب كل هذه الأسئلة، فكانت الشرارة الأولى التى تحرك المحرك فى السيارة حتى تنطلق إلى هدفها، والحمد لله أحدث البرنامج ردود فعل طيبة وردود فعل متشنجة وردود فعل مستحسنة وردود فعل مستاءة، وهذا أمر طبيعى، ودائماً ما يكون عندما يأتى جديد.

الاشتباك مع الأطفال فى أسئلتهم الوجودية ومع الرجال والنساء فى أسئلتهم الفقهية ومع الشباب فى أسئلتهم الحياتية، كل ذلك أمر وكأنه جديد على الساحة بهذه الكيفية، ومن توفيق الله تعالى أننا التزمنا بمذهب أهل السنَّة والجماعة، كثير من الناس يريد أن يحمل كل الناس وكل المسلمين على رأيه، بحيث إنه يرى نفسه الصواب فقط، وهذا نعاه الله سبحانه وتعالى علينا، ودائماً ما يحيل رفع الخلاف إلى يوم القيامة، فيقول سبحانه «ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (سورة الأنعام).

أما فى الحياة الدنيا، فهو اجتهاد مع إخلاص النية، فإن للمخطئ أجراً وللمصيب عشراً، كما أخرجه الدارقطنى وفى «الصحيحين»: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، فإن أصاب فله أجران»، والشائع هو حديث «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشرة أجور» رواه الدارقطنى، ولكننا مع رواية الدارقطنى طمعاً فى فضل الله وجزيل ثوابه سبحانه وتعالى.

برنامج «نور الدين» أحدث حراكاً فى الحياة الثقافية، لكنه ينبغى أن يكون نموذجاً، وأن تتحرك الأمة فى هذا الاتجاه، ونرى مشكلات العصر، ونرى كيف نطبق دين الله سبحانه وتعالى دون تفريط ودون تعنت، فدين الله سبحانه وتعالى واسع، ويكفينا منه قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (سورة البقرة)، يكفينا منه «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (سورة الشرح)، يكفينا منه أن الله سبحانه وتعالى بدأ كتابه وخطابه للبشر فقال: «بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم» (سورة الفاتحة)، فاختار صفتين من صفات الجمال ولم يختر صفة أو صفتين من صفات الجلال، فلم يقل «بسم الله المنتقم الجبار» ولم يقل «بسم الله الرحمن المنتقم» بل جعلها جمالاً فى جمال، يكفينا قول النبى صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، ما كان الرفق فى شىء إلا زانه، ولا نُزع من شىء إلا شانه» صحيح مسلم، يكفينا أن يأمرنا النبى صلى الله عليه وسلم أن نتخلق بأخلاق الله فيقول: «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء» أخرجه أبوداود والترمذى وأحمد عن عبدالله بن عمرو.

فهذه آيات وأحاديث كلها تبنى الشخصية.. تبنى نفسية سالمة مسالمة، آمنة مؤمنة مطمئنة، وتبنى عقلية واضحة عميقة مبتهجة، فتتكون تلك الشخصية القوية التى يريدها منا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كل هذا وأكثر ظهر فى هذا الكم الكبير من الأقلام النيرة المؤمنة التى نهضت لتقوم بواجب عصرها للدفاع عن الحياة، وللدفاع عن الدين، أما الذين تسافهوا فأولئك وراءهم ما وراءهم، وربنا سبحانه وتعالى علمنا أن من يكون على هذه الصفة أن نواجهه بالعفو والصفح، «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (سورة البقرة)، وأن نشتغل بعد ذلك بالصلاة وبالزكاة والعبادة، وبعمارة الأرض وتزكية النفس، وألا نقف عن أولئك، فبعضهم يعرف الحق ويحيد عنه، وبعضهم يضل عن الحق ولا يعرفه، ولكن دعونا نسِر فى طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى، نرفع لواء أهل السنة والجماعة، ونطبق تلك البرامج التى تؤدى إلى سعادة الدارين.. سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

كل حركة وسكنة فى هذا الكون وفى تلك الحياة على قلَّة ما فيها مرتبطة بالآخرة، فلا تحزن ولا تيأس، كل ما تلاقيه من نصب ومن تعب ومن كد فى الدنيا له علاقة بالآخرة، والله سبحانه وتعالى يقول: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرهُ» (سورة الزلزلة).

ويقول سبحانه: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (سورة العنكبوت)، ويقول سبحانه: «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» (سورة المؤمنون). وهكذا يوجه الله سبحانه وتعالى إلى أنه «وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» (سورة القصص).

الشكر مكرر وموصول لصحيفة «الوطن» الغراء ولكل أستاذ وعالم وعَلم وعلَّامة كتب فيها نصرة للحق، لا يسعنى إلا أن أقول: «جزاك الله خيراً».

* عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر التقدير، بل تزرعه في الآخرين. هي لا تعمل كإدارية، بل كقائدة حقيقية، وكأنها تظن أ...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...

رسالة دكتوراة توصي بالتوطين المحلي لصناعة السيارات

حصل الباحث محمد جمال عبد الناصر؛ المدرس المساعد بقسم إدارة الأعمال، بكلية التجارة جامعة عين شمس على درجة دكتور الفلسفة في إدارة الأعمال؛ مع التوصية بتداول الرسالة مع الجامعات الأخرى، وذلك عن رسالته بعنوان "توسيط المسئولية الاجتماعية والتسويق الأخضر في العلاقة بين أخلاقيات الشركات المدركة والولاء للعلامة (دراسة ميدانية)" وتشكلت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبد القادر محمد، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة المنصورة وعميد كلية التجارة جامعة المنصورة الجديدة" رئيسًا "، والدكتورة جيهان عبد المنعم، أستاذ التسويق بكلية التجارة ، ومستشار نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة" مشرفًا"، والدكتورة عزة عبد القادر، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة عين شمس" عضوًا"، والدكتورة حنان حسين، مدرس إدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة عين شمس" مشرفًا مشاركًا". وأجرى الباحث دراسته بالتطبيق على المشتركين في مبادرة تحويل وإحلال المركبات للعمل بالطاقة النظيفة، موصيًا  بأهمية العمل على زيادة المكون المحلي في السيارات داخل مبادرة الإحلال؛ بما...