م. خالد أباظة
كثيرًا ما يتكرر سؤال: لماذا لم ينص الوحي على طريقة الحكم؟ لماذا لم يحل إشكاليات التشريع: نصي أم مقاصدي أم تاريخي؟ لماذا لم يتنبأ بالفتنة الكبرى لمنعها؟ لماذا لم ينص على الخلافات العقائدية بين الفرق؟ حتى شطح البعض وتسائل: لماذا لم يذكر الوحي وجود بترول في الجزيرة العربية؟!
كثيرون ينتظرون من الوحي أن يكون قائمة من الأوامر والنواهي، ويرفع كل خلاف، ويحل كل إشكال، ويلجم كل انحراف.
قبل محاكمة النص: هل قام بدوره أم قصَّر؟ يجب أن نسأل أولًا: ما دور النص أصلًا؟
أصل اللغط في هذه الأسئلة أنها اعتبرت الأصل أننا جهلاء وعاجزين وتائهين وننتظر توجيه النص، وننتظر إجابات النص!
لكن الأصل والترتيب التسلسلي لمصادر المعرفة: العقل، ثم الوحي.
ولا يعني ذلك ترتيب أفضلية، فلم نقل أن العقل البشري أفضل من الوحي الإلهي، بل نقول: نحن نستخدم العقل أولًا، وبه نتوصل إلى صدق الوحي ونفهم مقصده.
والعقل والوحي كلاهما منحة إلهية، وهبة ربانية، فالله هو الذي أمد العقل بمباديء منطقية، وهو الذي أرسل الوحي.
يمكن تقسيم جوانب الحياة البشرية إلى ثلاثة أقسام:
١. العقائد: بالعقل يمكننا استنتاج وجود الله، واستنتاج بعض صفاته مثل أنه واحد، قادر، عالم، عدل.
لكن لا يستطيع العقل استنباط الغيبيات، مثل: الجنة، النار، الملائكة، الشياطين، إلخ؛ لذا قد تفرَّغ النص لوصفها والكشف عنها. ودور النص هنا: (المخبِر الواصف).
٢. العبادات: بالعقل ندرك أن شكر المنعِم حسن، لكن لا يعلم العقل كيف يشكر المنعِم.
فلا يستطيع العقل استنباط كيف نعبد الله، لذا فالقاعدة: “لا يُعبَد الله إلا بما شرَّع”، فتفرَّغ النص لوضع هيئات العبادات وصورها تفصيلًا. ودور النص هنا (المنشئ المحدِّد).
٣. المعاملات: تخص الحكم الأخلاقي لتصرفات الإنسان مع غيره؛ كأسرته، ودولته، والأعداء، والمال، والكون، والحيوانات، إلخ. والعقل يستطيع تمييز الحسن والقبح، الخير والشر، المصلحة والمفسدة.
يرى المعتزلة، والماتريدية، والزيدية، وابن تيمية، وابن القيم، ومحمود شلتوت، والريسوني، وغيرهم أن العقل يستطيع تمييز الحسن والقبيح، وأدلتهم في ذلك:
– القيم الأخلاقية العليا حسنها أو قبحها ذاتي، كقبح الخيانة، وقبح ظلم الأبرياء، وحسن العدل، إلخ. ويجد المرء نفسه مضطرًا ومفطورًا على هذه القيم. فلو سألت أي إنسان لم يصله الشرع: ما رأيك في إيذاء الأبرياء؟ سيحكم بقبح هذا الفعل قبل أن يصله أي نص ديني.
– لو أننا لا ندرك الحسن والقبح إلا بالنص الشرعي، فقبل وصول الشرع، لِمَ ننظر في الشرع أصلًا؟ ولِمَ ننظر في دعوة الرسول؟ عندئذ سيكون العقل البشري غير مدركًا لمعنى الحسن والقبيح فلا يلزمه البحث في دعوة الأنبياء!
لكن الحق أن العقل يدرك الحسن والقبح من قبل دعوة الأنبياء، والعقل يدرك أن اتباع الحق حسنٌ لذاته، والإعراض عنه قبيح، لذلك يوجب العقل النظر في دعوة الأنبياء قبل وصول النص الشرعي.
– ألم تكن البشرية قبل بعثة النبي تحتكم إلى عقولها، وتميز الحسن من القبيح، وتعرف المصالح والمفاسد؟
– قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)، لو كان العدل ما عدَّله الشرع، والمنكر ما أنكره الشرع، لأصبح معنى الآية: الله يأمركم بما أمركم به، وينهاكم عما نهاكم عنه، وهو بلا معنى! لكن الحقيقة: الله يأمر بالعدل، الذي تعرفه العقول بالفعل، وينهى عن الفحشاء، التي تعرفها العقول من قبل.
– وكيف نفهم وصف الله لأفعاله بالعدل ونفي الظلم عنه؟ فلو كان العدل ما حسَّنه الله، لأصبح المعنى: الله اختار أن يجعل هذا الفعل عدلًا، ثم فعله، ثم مدح نفسه أنه فعل العدل، وهو دور!
ولما كان العقل قادرًا على تمييز الحسن والقبيح، فما دور النص في المعاملات؟
ما جاء به النص في قسم المعاملات له سببان:
- كشف المبهمات: فقد توجد مسألة مركبة بحيث تعجز بعض العقول عن كشفها، فينزل نصٌ حاسم ليكشفها، ونجد هذا القسم قليلًا جدًّا في القرآن، مثل: الميراث والحدود، حتى قال عمر: “تولَّى الله قسمة الميراث بنفسه”.
-التذكِرة: كالأمر بالعدل، والإحسان، والجود، والتسامح، فكل هذا مما يعرفه العقل ابتداءً، لكن يعيده القرآن للتذكرة والوعظ، وبذلك نفهم قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)، أي أن الله يذكِّركم أن تعدلوا – وعقولكم تعرف ما هو العدل –وتحسنوا– وأنتم تعرفون ما هو الإحسان – وتبعدوا عن المنكر – الذي تعرفونه جيدًا.
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ)، العقول تعرف أن تأدية الأمانة حسن، والحكم بالعدل حسن، وجاء النص للتذكرة.
من هذا الطرح يتضح أن الغيبيات والعبادات لا يستطيع العقل استنباطهما، وهي أمور دينية، ثابتة، مقدسة، محصورة، منصوص عليها، تعبدية، نسأل عنها الفقيه.
أما المعاملات فهي دنيوية، اجتهادات عقلية، تابعة للمصلحة، قابلة للتغيير، نسأل عنها أهل التخصص، سواء كان مسلمًا أو غير مسلم.
ونعود لسؤالنا: هل قصَّر الوحي في دوره الذي شرحناه؟
سنجد أن الغيبيات العقائدية التي طالبنا الوحيُ بها قد وصفها وصفًا دقيقًا كافيًا، فاستفاض الوحي في التعرف على الله الواحد، القادر، العدل، الغفور، الرحيم، واستفاض في وصف ملائكته، وقصَّ سير رسله، وعرَّفنا بكتبه، بالقدر الكافي للإيمان، المحرك للتقوى، دون التوسع في تفاصيل غير هامة.
ومن السنة النبوية المتواترة وصلتنا مناسك العبادات من ذكاة، وصلاة، وحج.
أما المعاملات، فلا هو مطلوب من الوحي، ولا هو دوره، أن ينظم كل حياتنا الدنيوية ويصف طريقة الحكم، ولا يتنبأ بمصائب الدهر، ولا يحل مشكلات زوجية، ولا يقطع أي خلاف عقلي يبحث عن المصلحة، بل هو دور العقل، وعلى الناس أن تتحرر من تكاسلها وتواكلها وركونها وعجزها، وتتعلم كيف تبحث وتفكر وتتحرى المصلحة، وتضع بيدها قواعدها السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية.
تعليقات
إرسال تعليق