التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كيف تتحقق بقيمة العفاف؟


 

بقلم/ أ.د. علي محمد جمعة 

العفاف في السلوك هو الخطوة الأولى واللازمة لتحقيق العفاف الباطن، وهو مجموعة الأخلاق التي يصبح بها الإنسان إنساناً، فإن فُقد ذلك العفاف أصبح الحديث عن المنظومة الأخلاقية والدعوة إليها مجرد كلام إنشائي غير متصل بالواقع وغير متحقق في حضارتنا، وإذا أصبح الإنسان إنساناً أصبح بناء الحضارة أمرا هينا وهدفا قريبا. والعفاف الباطن يتكون من مجموعة من الأخلاق، وهى كما يلي:

1- الرحمة، والتي نراها مكررة في كلمة الابتداء «بسم الله الرحمن الرحيم»، وفي الحديث: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر»، وفي رواية: «ببسم الله» وفي رواية: «بالحمد لله» (انظر: الجامع الكبير للسيوطي)، ويقول رسول الله ﷺ في حديث الأولية، الذي جعله المحدثون أول حديث يعلمونه تلاميذهم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» (البخاري)، ويقول ﷺ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ» (البخاري).

2- الحلم والأناة، فقد قال النبي ﷺ لِلأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ» (مسلم)، ولقد رأينا أُناسا كثيرين من خلق الله فقدوا هاتين الصفتين، وسبب ذلك أنهم فقدوا العفاف الظاهر، مع أن المسلمين بنوا علومهم على التدقيق والتحقيق والتثبت وهي صفات تنبثق عن الحلم والأناة اللذين يجعلان الإنسان يرى الحقيقة على ما هي عليه، ولا يتسرع في تهمة الآخرين ولا في تأويل تصرفاتهم وأفعالهم بصورة ظالمة تخالف الواقع والحقيقة، ولا بصورة متحيزة، ولقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن التحيز في آيات كثيرة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) ، وهذا يقتضي الصدق أولاً مع الله ومع النفس، ويقتضي ثانياً معرفة حقيقة الدنيا وأنها إلى زوال، وأنها مزرعة للآخرة، والآخرة هي الحياة الحقيقة الدائمة، ولذلك نرى أن العفاف الباطني متعلق أيضاً بالعقيدة التي إذا ما فقدت فإن الدنيا بأثرها والأخلاق بجملتها قد لا تعني شيئا عند الإنسان.

3- التواضع، وفيه يقول رسول الله ﷺ: «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ» (مسلم)، وأمرنا ربنا سبحانه وتعالى في آيات كثيرة بهذا التواضع وأنه يجب أن يكون لله، ونهانا عن الكبر حتى قال رسول الله ﷺ: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» (أبى داوود)، ويقول ربنا سبحانه وتعالى في نصيحة لقمان لابنه التي ربط فيها بين العفاف الباطن والظاهر: (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ) [لقمان:١٧-١٨]، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى فرق بين المعاني الدقيقة، فجعل القوة في طلب الحق ليس من قبيل الكبر بل من قبيل عمارة الدنيا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:٥٤].

وقال تعالى وهو يشرح هذا المعنى كله في وصف الصحابة رضي الله عنهم: (أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:٢٩]، فنراه سبحانه يستعمل لفظ العزة ويستعمل لفظ الشدة وهو الذي نهى نهياً تاماً عن الكبر والتكبر، حيث قال تعالى: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:٦٠]، وقال: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:٧٢]، وقال: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ) [غافر:٥٦].

4- الشهامة والنجدة والنصرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك نرى في واقع الناس أن الذي فقد العفاف الظاهر ليست عنده هذه المعاني ولا يلتفت إليها ولا يضعها في مكانها الصحيح؛ بل يراها نوعا من أنواع السذاجة ويجادل فيها بغير علم، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الحج :٣]، وفي هذه المعاني يقول رسول الله ﷺ: «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» (ابن ماجة).

إن هذا كله هو أساس عملية بناء الحضارة، وهو يعد من الجهاد الأكبر الذي عندما يُفْقَد يضمحل الجهاد الأصغر ويضيع، وهو ما أشار إليه النبي ﷺ بقوله: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (البيهقي في الزهد)، وربنا يقول: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج:٧٨]، وبَشَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ ترك الجهاد في سبيله بالذلة فقال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (سنن أبي داوود) وعلة ذلك أننا لا نستطيع الجهاد الأصغر إلا إذا رجعنا إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس ومجمعه العفاف الباطني، وإذا فقدنا الجهاد الأكبر فقدنا معه الجهاد الأصغر فنظل في حيرة لا نعرف لها نهاية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بالصور.. اليوم التعريفي لصيدلة "مصر للعلوم والتكنولوجيا"

  عقدت كلية الصيدلة والتصنيع الدوائي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا فعاليات (اليوم التعريفي للطلاب الجدد orientation day) تحت رعاية  خالد الطوخي رئيس مجلس الأمناء والدكتور نهاد المحبوب القائم بعمل رئيس الجامعة والدكتورة رحاب عبدالمنعم عميد كلية العلوم الصيدلية والتصنيع الدوائي. وشهدت الفعاليات حضور  الدكتورة مها عيسي وكيل الكلية لشئون الدراسات العليا والبحوث والدكتورة ولاء حمادة وكيلة الكلية لشئون التعليم والطلاب ومدير وحدة ضمان الجودة بالكلية؛ وحضور رؤساء الأقسام بالكلية وأعضاء من هيئة التدريس والهيئة المعاونة، والدكتور الحسيني الجندي رئيس قسم العقاقير ومقرر لجنة رعاية الطلاب، والدكتورة ندى لبيب؛ عميد المكتبات ومستشار رئيس مجلس الأمناء. وقام أعضاء الاتحاد العام لطلاب كلية العلوم الصيدلانية والتصنيع الدوائي بعرض الأنشطة المختلفة التي يقوم بها الاتحاد واللجان المختلفة، فضلا عن  تكريم الأوائل من الطلاب بكل دفعة بلائحة pharm D ولائحة pharm D clinical بجائزة شهادة  الدكتورة سعاد كفافي للتفوق العلمي، وأخيرا تكريم اللجنة المنظمة لفعاليات الاحتفالية. يذكر أن الفعاليات شهدت مشاركة كل من المهند

من تراث المجمعيين: الدكتور حسن علي إبراهيم

أصدر مجمع اللغة العربية ضمن سلسلة "من تراث المجمعيين" الكتاب الأول فيها، وهو بعنوان "الدكتور حسن علي إبراهيم". هذا العمل الذي قام على إعداده وتصنيفه وترتيبه فريق عمل دءوب برئاسة أ.د.حافظ شمس الدين عبدالوهاب، وأ.د.أحمد زكريا الشلق (عضوي المجمع)، والأساتذة كبيري محرري المجمع: خالد مصطفى، وجمال عبد الحي، وحسين خاطر، وإلهام رمضان علي. جدير بالذكر أن هذا العمل العلمي الرفيع القدر قد استغرق العمل فيه عدة سنوات، وأن أ.د.صلاح فضل (رئيس المجمع السابق) قد صدَّر لهذا السِّفْر الكبير قبيل وفاته. وقد جاء في تصدير سيادته: "منذ صدور المرسوم الملكي بإنشاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة في الثالث عشر من ديسمبر عام 1932م، وعبر هذا التاريخ الممتد ظفر بعضوية هذا المجمع لفيف من العلماء والمفكرين والكتاب الرواد، واللغويين النابهين، وعدد من المستشرقين ممن لهم سهمة جلية في تحقيق التراث العربي ودراسته. وقد حرص هؤلاء العلماء منذ انتخابهم أعضاء بالمجمع على تقديم عصارة فكرهم، وخلاصة تجاربهم العلمية والحياتية، فجاءت بحوثهم المجمعيّة دالة على أصالتهم وجدتهم وعمق معارفهم وتنوع منابع ثقافتهم، ور

د. حنان شكري تكتب عن قضايا إثبات النسب

  د.حنان شكري أستاذ الأدب المساعد كلية اللغات والترجمة في الآونة الأخيرة طرقت مسامع المصريين كلمات جديدة، دخيلة على عاداتهم وتقاليدهم، من أمثلة ذلك: عبارة إثبات النسب، وبالتالي اكتظت أروقة محاكم الأحوال الشخصية بقضايا تُرفع لإثبات النسب، أو لعدمه، وفي حقيقة الأمر لابد أن هناك أسبابا عديدة لتلك الظاهرة، لعل أهمها غياب الدين وإهمال القيم والمبادئ التي تربينا عليها منذ الصغر، هذه المفردات الغريبة على المجتمع المصري تنذر بشر مستطير، إذا لم تتصد لها كل الجهات المسئولة، وأولها الأزهر الشريف، والمجالس التشريعية والنيابية، علاوة على دور الأسرة؛ فهي المسئول الأول عن هذا الكيان. إنه من الموجع حقا أن نجد تلك القضايا معلنة من ذويها على السوشيال ميديا، دون خجل أو حياء، وعلاوة على أنها قضايا تمس الشرف؛ فهي تؤذي نفوسا بريئة، تؤذي أطفالا صغارا ليس لهم ذنب أو جريرة، وإنني أتساءل: هل اغتيال شرف طفل وسمعته يساوي لحظات لذة محرمة عابرة؟!  والمؤسف أن مثل هذه القضايا يمتد لسنوات، فماذا جنى هؤلاء الصغار، ليكبروا فيجدوا أنفسهم على تلك الحالة بين أم تسعى لإثبات نسب وأب يتنكر لهذا النسب. وإنني كإنسانة ومواطنة مص