د. إبراهيم عوض
كانت مساهمة سيد قطب فى النقد القصصى مساهمة كبيرة وفعالة. لقد كان أحد القلائل الذين تناولوا هذا اللون من النقد من الزاوية النظرية، وهو فى عرضه لمجموعة "همزات الشياطين" لعبد الحميد جودة السحار يتحدث عن قلة النقد القصصى النظرى فى اللغة العربية مشيراً إلى أن كتاب تشارلتن الذى ترجمه د. زكى نجيب محمود بعنوان "فنون الأدب" والفصل الذى كان قد كتبه محمود تيمور بعنوان "فن القصص" ثم البحث الذى صدَّر هو به للسحار مجموعته الآنفة الذكر هو كل ما تحويه المكتـبة العـربيـة تقريبا عن هذا الباب الضخم من أبواب الأدب، باب القصة[1]. وفى ضوء هذا يمكننا أن نقـدر حَقَّ القَدْرِ الفَصْلَ الذى خصصه سيد قطب فى كتابه "النقد الأدبى" عن القصة والقصة القصيرة[2] والذى يمكن أن نستشف منه نظرته إلى هذا الفن، الذى كان يعده (كما رأينا) باباً ضخماً من أبواب الأدب. إنه يؤكد أن كتابة القصة ليست أمراً سهلاً، كما يذكر أن القصة هى الفن الوحيد الذى تردد طويلا قبل أن يقدم على التأليف فيه، وبخاصة أنه كان واعيا بالمستوى الرفيع الذى بلغته القصة فى أوربا، وروسيا بخاصة. كذلك نجده يقرر أن على الكاتب أن يتقن أشياء كثيرة، كالمقدرة على الوصف والمهارة فى السرد والبراعة فى خلق الجو وحسن التأليف بين كل هذه الأشياء إن أراد أن يكون قصاصا ناجحاً، إذ الفكرة (كما يقول) ليست كل شىء[3]. وبناء على هذه النقطة الأخيرة نراه يعترض على طغيان التوجهات الفكرية والنظريات الفلسفية والاجتماعية على دور الانفعالات النفسية والحوادث الواقعية فى القصة، إذ الفن فن كما يقول: "ومهما يكن للعلم والفلسفة من مكانة فيجب ألا يجتازا عتبة الفن إلا بمقدار، ومقدار لا يبرز بل يبقى من وراء الستار"[4]. كما أنه يمدح قـصـة "خان الخليلى" لنجيب محفوظ الذى انتفع بمباحث التحليل النفسى لكنه لم يسمح لها بأن تطغى على حاسته الفنية فبرزت فى القصة عدة شخصيات لا تقل أصالة عن نظائرها فى الحياة[5]. وعلى العكس من ذلك نجده يشتد فى نقده لشخصيات تيمور ويشبّهها بتماثيل الشمع، ويرد على من يقولون عن تيمور "إنه يلتفت إلى العقل الباطن" فى سيرة أبطاله وتصرفاتهم ويستخـدم كـشـوف "التحليل النفسى" کما فى "قنابل وأبو شوشة والمواكب" بقوله: "إن قيمة القصة لا تقوم على أساس أن القصاص ينتفع بالمباحث العلمية، فهذا قد يفسدهـا فى بعض الأحيان"[6].
وقد رحب سيد قطب، مَثَلُه مَثَلُ كثير غيره من نقاد تلك المرحلة، بما كان يسمى فى ذلك الحين بـــــ "اللون المحلى"، إلا أنه فى نفس الوقت شدد على البعد الإنسانى أيضاً. ومن هنا كان ثناؤه على روايات نجيب محفوظ التى ظهرت فى الأربعينات. فمثلا "خان الخليلى" منتَزعة من صميم البيئة المصرية فى العصر الحاضر، وهى ترسم فى صدق ودقة، وفى بساطة وعمق، صورةً حية لفترة من فترات التاريخ المعاصر وتسجل خطوة حاسمة فى طريقنا إلى أدب قومى واضح السمات متميز المعالم ذى روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الأجنبية مع انتفاعه بها، أدبٍ نستطيع أن نقدمه، مع قوميته الخاصة، على المائدة العالمية فلا يندغم فيها فى الوقت الذى يؤدى فيه رسالته الإنسانية. وهو يُبْرز هذه النقطة الأخيرة مرة ثانية إذ يقول: "إن هناك عنصراً آخر هو الذى يخرج بالقـصـة من محيطها الضيق إلى محيط الإنسانية الواسع. إنك لتقرأ القصة ثم تطويها لتفتح قصة الإنسانية الكبرى، قصة الإنسانية الضعيفة فى قبضة القدر الجبارة، قصة السخرية الدائبة التى تتناول بها الأقدار تلك الإنسانية المسكينة"[7]. وهو يؤكد وجود العنصرين فى "كفاح طيبة" وفى "القاهرة الجديدة".
ومما يلفت النظر فى مقالات سيد قطب النقدية أنه يوزع اهتمامه توزيعا عادلا على كل جوانب القصة التى يتناولها بالعرض والتحليل مناقشا بالتفصيل نقط القوة والضعف فى كل من هذه الجوانب، وكل هذا فى أسلوب جميل حساس يجعل من كل مقال أثراً أدبياً. ومع ذلك فلنركز على آرائه فى "رسم الشـخـصـيـة"، إذ حول هذا الجانب تدور كل الجوانب الأخرى تقريبا. وهو، مِثْلَ العقاد، يؤكد أن الحاجات البشرية لا تنحصر فى ضرورات الطعام والشراب، كما أنه يطلق على القصص التى تدور حول "الصراع بين الطبقات" اسـم "أدب الوعى الاجتماعى" وينقد "غلو الداعين إليه ومبالغتهم فى فرضه على جميع الفنانين بوصفه ضريبة إنسانية على كل فنان" مضيفا أنه "إذا صح أن أدب الوعى الاجتماعى ضريبة على كل فنان فلتكن نسبته هى نسبة الضرائب على مجموع الإيراد، بل ليكن فَرْضَ كفاية على الفريق المهيّإ له من بين جموع الفنانين، فالتجنيد قد يصلح فى كل بيئة إلا بيئة الفنانين".
والشخصية الجيدة فى نظره هى الشخصية التى تخرج من يدى القصاص متميزة عن كل من حولها، ولذلك فهو يثنى على طه حسين، الذى استطاع أن يصور كل شخصيات "شجرة البؤس" تصويراً بارعاً أَبْرَزَ الفوارق القليلة والدقيقة التى تميز بينهم، إذ كلهم طيب، وكلهم مؤمن بالله مستسلم للقـدر وللشيخ الذى يصلهم بالله وينطق بلسان القدر، وكلهم آفاقهم قريبـة، وكلهـم مطامحهـم محدودة، ومـن شـأن هذا كله أن يزيد فى عبء المؤلف الذى يريد أن يرسم ملامحهم المتشابهة ويبرز شخصياتهـم المتباينة. ولكنه مع ذلك يأخذ عليه أنه لم يستخدم فى هذه القصة أسلوباً بسيطاً ساذجاً بل أنطقهم بأسلوب عال عليهم. "وطبيعى أننا لا ننتظر من أديب كالدكتور طه حسين أن يثبت الحـوار بلغته الطبيعية بين هؤلاء الناس السذَّج القرويين، ولكن من حقنا أن ننتظر منه أن ينقل حوارهم من لغتهم إلى لغة عربية تناسبهم، وبذلك يكتمل الجو الذى تعيش فيه القصة ويتم الانسجام".
ومما يتصل بموضوع "الشخصية القصصية" تأكيد سيد قطب أن "الرواية القصصية من طبيعتها أن تسمح لأكثر من شخصية بالبروز"، ولذلك فهو يعجب متسائلا: "لــِمَ جعل (نجيب محفوظ) الفتى المؤمنَ المتدين لا تصطدم نظرياته بواقع الحياة؟". وبعد أن يقدم جواباً افتراضيا ويفنّده ينتقل إلى القول بأنه "ربما لاحظ أن التنسيق الفنى يحكم عليه ألا يبرز على المسرح إلا شخصية واحدة رئيسية. ولكن لا، فالرواية القصصية من طبيعتها أن تسمح لأكثر من شخصية بالبروز، والتنسيق الفنى يتحقق بتنويع درجات البروز".
وفيما يخص العلاقة بين الأدب والأخلاق نرى سيد قطب يعيب على القصاصين الذين يدعون إلى الإباحية الجنسية مؤكداً أن منطق الطبيعة يصادم هذه الإباحية. وهو يوضح هذا بقوله: "أحسب أن الطبيعة الخالدة كانت تقصد الإشارة إلى معنى خاص وهى تقدم أنثى الإنسان، وحدها دون بقية بنات الحيوان، مختومةً مقفلةً بذلك القفل الطبيعى الخاص. وإذا كان عصر من العصور لا يسمح بفكرة القُفْل المادى، فإن هذا لا ينفى أن فكرة القفل المعنوى أصيلة فى صميم الطبيعة كلها لا فى صميم النفس الإنسانية وحدها". ثم يختم هذا الكلام قائلا: "إن الطبيعة لأحكم من كل فلسفة أخلاقية ومن كل سفسطة إباحية، وإن كل انحراف عن سننها لهو انزلاق إلى مهاوي الفناء". ومع ذلك فإنه، بعد هذا التفنيد لرأى الزوجة المستهترة (فى "الرباط المقدس")، التى تتهم "راهب الفكر" بأنه يدافع عن غيرة الرجل على فراشه حماسةً منه للرجال، لا يوضح أكان ينبغى على مؤلف القـصـة ألا يدع الزوجة تعلن مثل هذه الآراء أو تدافع عنها. لقد اكتفى بتفنيد هذه الآراء والدفاع عن العفة الجنسية والإخلاص الزوجى.
وبعد، فإن أهمية سيد قطب الناقد القصصى تكمن فى أنه من خلال هذه المقالات النقدية قد قدّم نجيب محفوظ إلى جماهير القراء يوم كان يخطو خطواته الأولى فى عالم "القصة"، فقد تحمس له ورحب به ترحيباً شديداً، بل لقد ذهب به التحمس يوماً إلى حد أن أعلن أن أعمال نجيب محفوظ هى نقطة البدء الحقيقية فى إبداع رواية قصصية عربية أصيلة، فلأول مرة يبدو الطعم المحلى والعطر القومى فى عمل فنى له صفة إنسانية فى الوقت الذى يهبط مستواه الفنى عن المتوسط من الناحية الفنية المطلقة[8]. وقد ظهرت تلك المقالات أحيانا تحـت عنـوان "على هامش النقـد" وأحياناً تحت عنوان "صحيفة النقد" وأحياناً ثالثة تحت عنوان "كتب وشخصيات". وفى هذه المقالات تناول، رحمه الله، النتاج القصصى لجميع كبار القصاصين فى مصر فى ذلك الوقت كطه حسين والمازنى وتيمور والعقاد ومحفوظ وحقى، محاولاً فى كل مرة أن يبرز الملامح التى تميز كل واحد منهم، وذلك فى أسلوب دافئ يشد القارئ ويساعده على تذوق الجمال فى كل عمل قصصى. إن د. محمد النويهى يتهكم بغير حق على سيد قطب لمحاولته فى كتابه "النقد الأدبى ــــــــ أصوله ومناهجه" أن يضع المناهج والأصول لكل جنس أدبى، مدعيا أنه لعدم معرفته لغة أجنبية يعجز عن الاضطلاع بهذه المهمة وأنه كان ينبغى أن ينتظر حتى تتم دراسة الأدب العربى كله. لكن د. النويهى، مع ذلك، لا ينكر على قطب حساسيته فى تذوق الأعمال الأدبية، وإن عدها فضله الوحيد[9]. إن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن نصيب سيد قطب من هذه الحساسية كان كبيرا، لكن الذى نخالف فيه د. النويهى هو أن سيد قطب قد استطاع برغم عدم معرفته لغة أجنبية فى ذلك الوقت، أن يحرز نجاحاً ليس بالقليل فى عرض أصول كل جنس أدبى. وعلى كل حال فهذه المبادىء مبادىء عالمية، ولا تستلزم أن ينتظر النقاد، قبل أن يفكروا فى مناقشتها، إلى أن تتم دراسة الأدب العربى كله. وهذا على الأقل يصدق على الفصل الخاص بالقـصـة والـقـصـة القصيرة فى كتاب "النقد الأدبى" المذكور آنفا، وهما اللتان تهماننا هنا، إذ إن النقاد العرب لم يخلّفوا لنا شيئاً يمكن الانتفاع به فى مجال النقد القصصى. إننا ينبغى ألا نَغْفُل عن أن هذا الفصل كان فى ذلك الحين إحدى المحاولات القليلة جدا فى هذا الميدان.
الهوامش:
1- سيد قطب/ عرض "همزات الشياطين"/ الرسالة/ 22 إبريل 1946/ ص 433
2- انظر/ سيد قطب/ النقد الأدبى/ ص 73-78. وانظر كذلك المعركة التى ثارت بينه وبين صلاح ذهنى حول استخدام بعض المصطلحات القصصية وبعض النقط الأخرى التى لها علاقة بنقد القصة، وذلك فى مجلة "الرسالة"/ 16 أكتوبر 1944/ ص 933، و 23 أكتوبر 1944/ ص 959، و 13 نوفمبر 1944/ ص 1016، و 20 نوفمبر 1944/ ص 1035
3- انظر عرضه لــ "ألوان من الحب" لعبد الرحمن صدقى/ الثقافة/ 14 مارس 1944/ ص 20
4- انظر عرضه لــ "شعاب قلب"/ الرسالة/ 30 أكتوبر 1944/ ص 973-974
5- انظر عرضه لــ "خان الخليلى"/ الرسالة/ 17 ديسمبر 1945/ ص 1366
6- انظر عرضه لـــ "بنت الشيطان" لمحمود تيمور/ الرسالة/ 18 سبتمبر 1944/ ص 768
7- انظر عرضه لـــ "خان الخليلى" المذكور آنفا/ ص 1364، 1366
8- انظر عرضه لــ "القاهرة الجديدة" الآنف الذكر/ ص 1440-1441
9- انظر د. محمد النويهى/ ثقافة الناقد الأدبى/ لجنة التأليف والترجمة والنشر/ القاهرة/ 1949/ ص 59-64
تعليقات
إرسال تعليق