التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رائدة تعليم البنات فى مصر الحديثة: نبوية موسى (1886 – 1951م)



بقلم/ أ.د. سعيد إسماعيل علي

لا نظن أننا نبالغ فى كثير أو فى قليل إذا قلنا أنها تعد من أوائل رائدات التعليم لا فى مصر وحدها وإنما فى الوطن العربى ، ذلك أن الله قد هيأ لها أن تعيش فى فترة أقصى ما كانت البنت تطمح فيه من مراتب التعليم هو تعليم المرحلة الأولى أو ما يعلوه قليلا ، فضلا عن أن تحتل موقعا وظيفيا ، فإذا بها تضرب المثل لبنات جيلها ومن يأتى بعد ذلك أن المطالب لا تنال بالتمنى وإنما "تؤخذ الدنيا غلابا "!
مسيرة حياتها :
ولدت نبوية موسى فى السابع عشر من شهر ديسمبر 1886 فى إحدى قرى بندر الزقازيق ( كفر الحكما ) فى مصر ، فى أسرة تعد من الطبقة الوسطى ، فلم تعان من حرمان اقتصادى وسوء وضع اجتماعى. وحصلت على الابتدائية من مدرسة السنية بالقاهرة عام 1903 ، ثم استكملت مشوارها التعليمى فحصلت على دبلوم معلمات السنية عام 1906م ثم خطت خطوة كبيرة سجلها لها تاريخ التعليم عندما طلبت التقدم لامتحان الثانوية ، ولم تكن بمصر مدرسة للبنات ، ولم يسبق فى التاريخ أن حصلت فتاة على تلك الدرجة ، وبعد مساومات تمكنت من ذلك عام 1907م.
وقد تقلبت نبوية موسى فى عديد ممن الوظائف بمدارس وزارة المعارف من مدرسة إلى ناظرة إلى موجهة فى أماكن عدة مثل القاهرة والفيوم والإسكندرية والمنصورة ، لكن شخصيتها القوية وما كانت تتسم به من حدة ، وعدم تقبل البعض من الرجال من مسئولى الإدارة المحلية والتعليم أن تكون هناك امرأة تدير وتوجه وتأمر وتعلم وتتعلم ، فضلا عما يشيع عادة فى البيئات الاجتماعية فى مرحلة انتقالها من حالة التخلف إلى التقدم من سوء علاقات اجتماعية ومنافسات مهنية تجنح إلى بعض دس ووقيعة ، كل ذلك جر عليها الكثير من المتاعب مع الإدارة.
لكن نهجها الذى كان يدفعها دائما إلى الحركة والنشاط ، مكنها من أن تكون دائمة الاطلاع والدرس وكتابة المقالات فى الصحف والمجلات مما جر عليها المزيد من المتاعب ، ووصل الأمر إلى التحقيق معها، وعرف عنها قرضها للشعر ، وألفت رواية تاريخية ترجع أحداثها إلى عصر الفراعنة ، كما ألفت عددا من الكتب التى تقرر تدريسها بالمدارس الابتدائية للبنات.
ولما ضاقت بها السبل من جراء تعسف رجال الإدارة معها ، رأت أن تستقل بالعمل ، فأنشأت مدرسة للبنات بالعباسية عام 1927 أسمتها " مدارس الأشراف " ، ولما نجحت هذه المدرسة أنشأت مدرسة أخرى بنفس الاسم بالاسكندرية ، وذاع صيت هذه المدارس ، لذيوع صيت المسئولة عنها، وباعتبارها "مربية" وسبق لها أن كانت ناظرة على بعض مدارس المعارف، واستمرت تدير مدارسها إلى أن تخلت عنها موقفة إياها لوزارة المعارف عام 1946م.
وبالإضافة إلى أنشطتها فى مدارسها ، كانت لها أنشطة أخرى ، حيث شاركت فى مؤتمر لتدريس العلوم كانت رابطة التربية الحديثة قد عقدته بالقاهرة عام 1942 ، كما كانت عضوا فى مؤتمر شئون التعليم وفضلا عن ذلك أنشأت مطبعة تصدر مجلة نسائية أسبوعية باسم (الفتاة) استمرت فى الصدور ما يقرب من خمس سنوات إلى أن أغلقت ، وكانت المجلة ساحة واسعة تكتب فيها العديد من المباحث والمقالات والآراء التى تعبر بها عن فكرها التربوى.
آراؤها التربوية:
وكان من الطبيعى أن تحتل قضية تحرير المرأة الكثير من اهتماماتها ، ذلك أنها أدركت تلك العروة الوثقى بين درجة التقدم التى تحرزها أمة من الأمم وما تكون عليه المرأة من أوضاع ، إذ استحال فى العصر الحديث أن تعرف أمة الطريق إلى النهوض ، إذا ظلت المرأة مكبلة فى سلاسل الجهل وسوء المكانة والقهر والاستعباد.
وإذا كان التعليم هو الركيزة الأساسية لتحرير المرأة، فإن التحاقها بعمل هو ركيز لا تقل أهمية ، ومن هنا أكدت نبوية موسى على حاجة المجتمع إلى معلمات وطبيبات ومحاميات وخياطات، ولما احتج البعض بأن عاداتنا الشرقية – فى تلك الفترة – لا تتحمل ذلك، ذهبت إلى أن هذه العادات والتقاليد خاطئة ويجب المجاهدة فى تغييرها. والعلاقة قوية بين التعليم والعمل ، لأن حرمان الكثيرات من التعليم اضطرهن إلى الاشتغال بأعمال دنيئة لحاجتهن إلى كسب لقمة العيش ، بينما حصولهن على قدر مناسب من التعليم، يعلي من مستوى العمل الذى يمكن أن يلتحقن به.
ورأت نبوية موسى أنه إذا كان من الضرورى أن نفسح الطريق أمام الأفكار والأساليب الحديثة فى التربية ، إلا أن هذا لا يعنى بأى حال من الأحوال التقليد الأعمى من قبل بناتنا لزى البنات الغربيات ، إذ من الواجب التقيد بما أشار إليه القرآن الكريم وأكدته السنة النبوية من التزام الحشمة والوقار ، فذلك لا يمكن أن يحول بين الفتاة وبين أن تنال ما تريد من تعليم.
وقد وجهت نبوية موسى سهام نقد لما كانت تبذله وزارة المعارف من جهود فى مراقبة التعليم الأهلى والتشديد عليه ، صحيح أن وزارة المعارف كان لها عذرها حيث دخل ساحة هذا التعليم متطفلون من التجار الذين اتخذوا من التعليم سلعة يريدون من خلالها مجرد الكسب حتى ولو كان ذلك على حساب مستوى الخدمة التعليمية ، إلا أنها كانت تنظر إلى نفسها باعتبارها استثناء ، فهى ليست دخيلة ، ولها من الخبرة والعلم ما يجعلها أكثر قدرة من الموظفين الذين كانت وزارة المعارف ترسلهم للتفتيش على مدارسها، بالبصر بما يجب وما لا يصح من أمر التعليم، وخاصة أن الوزارة لم تكن تجرؤ على الاقتراب من المدارس الخاصة الأجنبية!
وقد انتقدت أسلوب التربية فى المدارس فى أواخر العشرينيات من القرن العشرين فى صحيفة كانت شهيرة تسمى "البلاغ" ، ووجه انتقادها أن هذا التعليم كان يهتم بحشو أذهان التلاميذ بكم كبير من المعلومات دون اهتمام واضح بمدى فهمهم لها، وقدرتهم على الاستفادة مما تعلموه فى حياتهم العملية ، على المستوى الفردى وعلى المستوى الاجتماعى، وما لا يقل عن ذلك أهمية قلة اهتمام التعليم فى ذلك الوقت بتنمية تفكير التلاميذ بتدريبهم على كيفية الاستنباط.
أما السياسة الإنجليزية فى التعليم المصرى ، فمن الطبيعى أن تحظى بالكثير من النقد ، إذ لم يكن من صالح القوة الاستعمارية أن تجد فى نشر التعليم ، وأن تسمح بنوعية منه تسهم فى تكوين تلك العقول النيرة التى تبصر الحق والحقيقة وتلح على طلبهما وتكافح من أجل ذلك. وتضيف نبوية إلى ذلك انتقادها ما كانت الإدارة الإنجليزية تحرص عليه من تعيين إنجليز بصفة خاصة وأجانب بصفة عامة فى كثير من المواقع التى كان يمكن لمصريين أن يشغلوها.
وبحكم خبرتها كانت ترى أن النساء أصلح فى إدارة مدارس البنات من الرجال ، حيث كان الرجال هم الذين يقومون بذلك فى أوائل القرن العشرين ، وقد استجابت الوزارة لرأيها ، ففى عام 1937 قرر مراقب التعليم الأولى نقل جميع رؤساء مدارس البنات الأولية إلى مدارس البنين ، وإحلال رئيسات محلهن.
وقد شعرت نبوية موسى بما يمكن أن يمثله التعليم الأجنبى من خطورة على البنات خصوصا ، فأشارت إلى أن هذا التعليم الذى كان يسير وفقا لنظام إرساليات هى فى الأصل دينية ، تروج لنهج الراهبات ، مدارسها لا تعنى بتعليم اللغة العربية التى هى لغة البلاد ولغة الدين الإسلامى ، بينما لو قارنا أمثلة من بعض الدول المتقدمة فلن نجد منها من يعنى بتعليم بناتها لغة أجنبية وتهمل اللغة القومية ، لأن ذلك من شأنه أن يضعف الرابطة الوطنية بين أمهات المستقبل وبين وطنهن، والأخطر من ذلك أن الجهل باللغة العربية ومعرفة اللغة الأجنبية يمكن أن يجر البنات إلى الإعجاب بكل ما هو غربى ، وفيه الكثير من العادات والتقاليد المنافية للتقاليد العربية والمصرية والإسلامية.
كذلك عنيت نبوية موسى بأمر تعليم اللغة العربية ومناهجها ، فلفتت الأنظار إلى أن هذه المناهج وأساليب تعليمها من شأنها ألا تعين على حسن تعليم العربية فتخسر لغتنا القومية فى مجال المنافسة مع تعليم اللغات الأجنبية ، وكانت لا تلقى القول على عواهنه بل تقدم نماذج وأمثلة باعتبار خبرتها مما هو قائم بالفعل مبينة سلبياته مؤكدة على ضرورة تطويره ، فضلا عن الجهود التى بذلتها فى تأليف كتب متخصصة فى تعليم اللغة العربية وقررت بالفعل على مدارس البنات.
مـــراجع من تأليف نبوية موسى:
- تاريخى بقلمى ، مخطوط بمتحف التعليم بالقاهرة.
- المرأة والعمل ، الإسكندرية ، 1920م.
- المطالعة العربية لمدارس البنات ، القاهرة ، نظارة المعارف العمومية ، 1911م.
- مقالات متعددة فى مجلات وصحف: الفتاة ، التعليم الإلزامى ، السياسة ، البلاغ.
مراجع أخرى:
- زينب محمد فريد : من تاريخ التعليم فى مصر ، القاهرة ، الأنجلو المصرية ، 1975م.
- سعيد إسماعيل على : تاريخ التربية والتعليم فى مصر ، القاهرة ، عالم الكتب ، 1985م.
- محمد أبو الإسعاد : نبوية موسى ودورها فى الحياة المصرية ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سلسلة تاريخ المصريين ، 1994م.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر التقدير، بل تزرعه في الآخرين. هي لا تعمل كإدارية، بل كقائدة حقيقية، وكأنها تظن أ...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...

رسالة دكتوراة توصي بالتوطين المحلي لصناعة السيارات

حصل الباحث محمد جمال عبد الناصر؛ المدرس المساعد بقسم إدارة الأعمال، بكلية التجارة جامعة عين شمس على درجة دكتور الفلسفة في إدارة الأعمال؛ مع التوصية بتداول الرسالة مع الجامعات الأخرى، وذلك عن رسالته بعنوان "توسيط المسئولية الاجتماعية والتسويق الأخضر في العلاقة بين أخلاقيات الشركات المدركة والولاء للعلامة (دراسة ميدانية)" وتشكلت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبد القادر محمد، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة المنصورة وعميد كلية التجارة جامعة المنصورة الجديدة" رئيسًا "، والدكتورة جيهان عبد المنعم، أستاذ التسويق بكلية التجارة ، ومستشار نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة" مشرفًا"، والدكتورة عزة عبد القادر، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة عين شمس" عضوًا"، والدكتورة حنان حسين، مدرس إدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة عين شمس" مشرفًا مشاركًا". وأجرى الباحث دراسته بالتطبيق على المشتركين في مبادرة تحويل وإحلال المركبات للعمل بالطاقة النظيفة، موصيًا  بأهمية العمل على زيادة المكون المحلي في السيارات داخل مبادرة الإحلال؛ بما...