قصة بقلم/
عبد الرحمن هاشم
(1)
لم يكن رفضها لحبيب روحي بالغريب ولا العجيب، فقد دأبت على إهمالها لشأني،
ولم تزودني بسر تعنتها، كما لم تنفع محاولات توددي وتذللي في إخراجها من دائرة
التسلط وفرض الرأي على أبنائها وبناتها مصحوبا بالزجر والتأنيب والسخرية اللاذعة.
فلا عجب إذن أن يصيبني من جرح كلامها ما أعف عن ذكره عقب وقوفها أمام إتمام
زواجي من ابن عمي، وقد كان مفروغا منه في اعتقاد الجميع.
وقد اقتحمت عزلتي ذات يوم بعد أن أكلت الأحزان والشجون من حصيلة دمي فهزل
جسدي وشحب وجهي، وإذا بها تعاتبني لالتزامي الصمت والعزلة والنوم، ولم أستطع
امتلاك زمام نفسي فبكيت بتشنج، ثم اندفعت أفتح لها قلبي وأبين ما ينطوي عليه من
حب، مع ضرورة بقاء هذا الحب كضرورة الهواء للإنسان والروح للجسد.
وما كان أشقاني حين رأيتها تقابل أشجاني الحارة بهدوء قاتل وتلقي عليها
ماءً باردًا باتهامها لي بالتمثيل البارع وأنَّ حالتي ما هي إلا حالة مراهقة شاذة.
ولكن، كيف لي وأنا الفتاة المنطوية ذات الأربعة عشر ربيعًا أن أبت في هذا
الأمر أو يكون لي فيه قرار؟
لذلك كله قصة طويلة طول عمري كنت فيها البطلة والشهيدة التي ظل حبها مستورا
بين ضلوعها لا يعلم به إلا أهل الثقة والصدق من الناس.
والدي هو
الشقيق الأصغر لوالده، وأيضًا نحن جيران، نسكن في الدور الثالث بمنزل بشارع الحلو
بطنطا، ويكبرني بخمس سنوات.
ولك أن تتخيل العلاقة بين أسرتين يقطنان في دور واحد؛ الشقة أمام الشقة،
ورب الأسرة الأولى شقيق لرب الأسرة الثانية، والأولاد يشتركون في اللعب والفسح
والأكل والدروس وأحيانًا المبيت.
أحببته من أول نظرة، وتحديدًا يوم التقيته على بسطة السلم وكان يناولني بعض
قطع الأثاث يوم انتقالنا إلى جواره وسني عشر سنوات وقد سبقنا هو وأسرته بعام
تقريبا.
تطوع هو وإخوته الصغار بمساعدتنا في نقل ما خف وزنه من "العفش"
وصعدوا به إلى الدور الثالث، تاركين "الثقيل" للعمال.
ومنذ هذا اليوم وهو يملأ وجداني؛ صوته، همساته، ضحكاته، عتابه، بكاؤه،
حياؤه، أدبه، أشعاره.
ولا يخطرن بالبال أن افتتاني به هو افتتان حس ولذة وشهوة، بل هو أسمى من
ذلك بمراحل ومراحل. هو افتتان عذري عفيف يندر في هذا الزمان وفي كل زمان.
في ذلك الماضي البعيد، أي قبل ما يزيد على 75 عامًا؛ انضم عمي لنشاط سياسي
معارض لأهل الحكم آنذاك فحكم عليه بالسجن المؤبد فخافت أمي على زوجها وانسحبت
رويدا رويدا وأغلقت عليها بابها وأثَّرت على والدي فاستجاب لها ولم يعد يسأل على
أبناء أخيه إلا بطريق غير مباشر وأصابته "فوبيا السياسة" فاعتكف في
منزله لا يخرج منه إلا للعمل.
وتماسكت زوجة عمي وعاشت على ريع أرضها مع بعض المساعدات السرية التي كان
يرسلها أقاربها ومنهم والدي.
وكان من الطبيعي أن توتر هذه الأحداث علاقة الصداقة بين أمي وزوجة عمي،
وكانت أمي تستشهد بالمثل السائر "الباب الذي يأتيك منه الريح سده
واستريح"، وقوَّى هذا الشعور في نفسها ما نشأت عليه في بيت أبيها الذي كان له
رأي يبثه لأهل بيته ويذيعه بين أصحابه وهو أن الملك لله يؤتيه من يشاء، وأنه لن
يحدث في ملك الله إلا ما يريد الله، وأن من طلب الحكم أوكل إليه، وأنه أي هذا
الحكم أمانة ومسئولية وندامة يوم القيامة لمن لم يوف بحقه، وأنه ما من سيئ إلا
والذي بعده أسوأ منه، وكيف ما تكونوا يُولَّ عليكم، وأن كل قوم يستحقون من يقودهم،
وأن مصادمة إرادة الله لا تأتي بخير.
اعتقدت أمي أن ملف عمي لدى الجهات الأمنية سيكون حجر عثرة لا محالة أمام
أولاده فيما يستقبلون من وظائف وأعمال، وساعدها في تثبيت ذلك الاعتقاد التجارب
الحيّة حولها وفي بيئتها.
ولذلك حرصت على إماتة الأمل وهو نبتة صغيرة، واستقبلت باستهانة فكرة حجز
ابنتها لابن عمها وتزويجها منه عقب انتهاء دراسته وتخرجه، وجاء رفضها صريحًا
صادمًا مُعرّضا بالقابع خلف القضبان وكان موقف والدي من كل ذلك الحياد والتردد بين
واجبات الأخوة ونصائح الزوجة.
(2)
جُعل بيتنا سجنًا لي لا أستطيع التحرر من قيوده على الرغم من أعوامي
الأربعة عشر، وجنحت والدتي إلى التمادي في خطتها، فأقعدتني عن التعليم مكتفية
بشهادة الإعدادية، وأتت لي بآلات حياكة وتطريز جاعلة من حجرتي مشغلًا؛ عن طريقه
فقط أمكنني التواصل مع العالم الخارجي عبر زبائني من الفتيات والسيدات.
خطر في ذهن أمي أن البعيد عن العين بعيد عن القلب، وأنها بحبسي عن رؤية
المحبوب تُحقق المراد وهو نسيانه وفتور التعلق به، وقد فرحت بدخوله الجامعة
باعتبار أن بنتًا من بنات الجامعة لا شك سوف تعجبه وتلفت نظره وتحل في قلبه محلي.
ولكن هيهات؛ فقد تعايشت مع السجن المنزلي كما تعايشت مع عقوبة عدم إتمام
التعليم وجعلت من حجرتي عالمي المتسع، كما جعلت من مكتبة أبي مدرستي وجامعتي.
كل ذلك وطيف الحبيب لا يغادرني، فإذا نمت فهو ينام في حضني، وإذا استيقظت
أتخيله طول الوقت معي، وأجتهد في الحياكة والتطريز من أجله، وأجتهد في المطالعة
والدرس من أجله، واستطعت أن أدخر من تعب يدي ما لم يحوجني لطلب شيء من أمي.
حباني الله بموهبة الرسم والتشكيل وساعدتني هذه الموهبة على تصميم الملابس
بكافة أنواعها ومن ثمَّ حياكتها الأمر الذي جعلني أتعاقد مع بعض المحلات حتى راجت
بضاعتي وانتعش دخلي وكنت نموذجًا حيًا للفتاة الحِرفية ذات العقل التجاري النشط.
كان هذا الأمر كافيًا لاستباق الخطاب لطلب يدي.
وهكذا استقبل بيتنا أمهاتٍ شتى؛ كل واحدة منهن تلتمس الموافقة على الارتباط
بابنها.
وكان لوالدي صديق تدنو سنه إلى الخامسة والأربعين، أصلع الرأس، متين الجسم،
فارع الطول، أسمر اللون، جوهري الصوت، يعمل بتجارة الأسمدة الزراعية، ويقيم في بيت
أبيه في شارع الصاغة بطنطا وهو شديد الاعتزاز بأصول عائلته.
لم يكمل تعليمه، لكنه تفرغ لتجارة أبيه التي بدأ يعمل بها وهو في السابعة
من عمره. انبهر بموهبتي فعرض على أبي التوسع ومشاركته في المشروع بتأجير إحدى شقق
الدور الأرضي بذات المنزل الذي نقطن به وبها ثلاث حجرات لتكون مشغلا كبيرا يحمل
اسم "الرضوان" ويدر دخلا على الجميع، وتمت الموافقة دون الرجوع لي أو
استشارتي.
وقد دأبت أمي بعد رفضي فكرة الزواج وتعلقي المستميت بابن عمي، على التلميح
لي كل حين وحين بمميزات هذا الشريك، وأنه "شريك أمين، لم نر منه أي شر"،
لكني كنت أقابل كلامها بالصمت والاستهانة.
وكان من نتيجة إعمال الحيلة أن أسمع ذات يوم جلبة في الشقة المواجهة لشقة
المشغل في الدور الأرضي، وأسأل عن الجلبة وأعلم أن هذا الشريك يجهزها لتكون مقرا
لإدارة المشغل ويخصص لي فيها حجرة مكتب.
وتمر أشهر بعد هذه الحادثة وإذا بي أسمع جلبة في الشقة التي تعلو شقة ابن
عمي، وأسأل عن الجلبة، فتجيبني أمي أنَّ هذه الشقة يتم تجهيزها لاستقبال عروسة ولا
كل العرائس.
(3)
كان عمي ضمن بحر طلبة مدرسة المعلمين الذي يتماوج على كوبري عباس 1946م
وكانت مصر في هذه الفترة مملكة محتلة تموج بمظاهرات رافضة للأوضاع الفاسدة التي
أباحت للإنجليز انتهاك الوطن والعبث بمستقبله.
تناغم على كوبري عباس هدير شباب يحاول الوصول إلى قصر عابدين، فانفتح
الكوبري الحديد ببطء وتحول إلى شطرين وهوى الشباب إلى النيل عشرات بعد عشرات نجا
منهم من نجا ومات منهم من مات.
وينجو عمي، ويبتعد عن أعين رجال الأمن إلى أن يتخرج، لكن حب الوطن الذي
يسري في دمه يجعله يناضل بعد التخرج في صدام مباشر مع الإنجليز في مدن القناة وكان
من نتيجته استشهاد صديق من أعز أصدقائه.
ومرت الأيام وتم خلع الملك واستطاع نظام عبد الناصر تجميد الأحزاب السياسية
وإزاحة الداعين إلى الديمقراطية وعزل المبادرات الجماهيرية مهما كان اتجاهها، رغم
الخطب الرنانة التي تتحدث عن الشعب القائد والشعب المُعلم.
وسأل عمي صديقه الشهيد ذات ليلة في المنام:
-
أذهب دمك هدرا؟
فردَّ عليه الشهيد بصوت واضح:
-
كلا وألف كلا.
واستأنف عمي نضاله، لكن في أضيق الحدود وفي صورة غير علنية، وعرف الفارق
جيدًا بين عهد مضى أتيحت فيه الحريات وعهد حاضر فرضت فيه كل القيود، وسرعان ما
اكتشف أمره وكان ما كان من اعتقال وتعذيب وحكم وتغييب وراء الأسوار.
لم يكن عمي ضعيف الإيمان بقضيته، ولذلك استهان بكل ما يُصب عليه من عذاب،
وخصوصًا أن صديقه الشهيد ظل يأتيه في المنام يواسيه ويشد من عزمه وبخاصة وهو في
سجن الواحات.
ظل عمي متواصلا مع أسرته عبر الخطابات وعبر بعض الزيارات المتباعدة، وكم
فرح بنجاح الحبيب والتحاقه بكلية التربية وكم ثمّن جهد امرأته وما تقوم به من
أعباء لا يقدر عليها بعض الرجال.
والحقيقة أن سكينة وطمأنينة أصابت عمي في سجنه بالواحات، ورأى أنه سُجن
ظلمًا وعدوانًا كما سُجن سيدنا يوسف عليه السلام، وعُذِّب على معتقده كما عُذِّب
جميع أصحاب المبادئ الكرام، فرضيت نفسه واستكانت سريرته لإرادة الله.
وكان يقول لمن حوله:
-
زنزانة الروح
أشد خنقًا من زنزانة الجسم، ويمكن لأحدكم أن يتحرر من زنزانة الروح مهما كان في
ظلمات السجن، لكنه وهو خارج السجن قد يضع روحه بيديه في الزنزانة فيحجبها عن الرقي
والتعرف على صاحب الملك والملكوت.
وكان أغلب حديثه معهم عن الرضا، وقد أثَّر فيهم هذا الحديث بدليل أنهم
حوَّلوا سجن الواحات إلى مشتل للزهور، ومزرعة، ومنحلٍ ومسرح، وملعب، وورشة،
ومستشفى، ومدرسة لمحو الأمية.
وكان يوضح فكرته أكثر، فيقول:
-
لديك روحا من
عند الله لا يقدر عليها الحديد ولا النار، ولا يستطيع شيطان أن يتسلط عليها ولو
كان من مردة الجان. قال تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان). (الإسراء: 65).
ومذهب العارفين أن اللطائف تحكم الكثائف. أي أن الروح تحكم الجسد، وهي تنتقل لكنها
لا تموت؛ إنما الجسد هو الذي يموت ويبلى. وهي مناط التشريف ومناط الحساب ومناط
المساءلة.. قال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون).
(المؤمنون: 115). والله هو الموعد، والغاية هي إرضاء الله.. قال تعالى: (يا أيها
الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه). (الانشقاق: 6). وتلكم هجرة الأرواح إلى
الله، وما أشرفها وما أعظمها من هجرة، وما أهون المشقات والمصاعب إذا كان الموعد
هو الله، والله هو الغاية.
حفظ عمي القرآن وحفَّظه غيره وكان شعلة نشاط في السجن كما كان خارجه وحافظ
على الرياضة والأذكار والتحصينات التي تقال في الصباح وفي المساء، وكان كتاب
"إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي هو السفر المحبب إليه؛ كلما ذهب إلى
مكتبة السجن يظل يقرأ فيه.
(4)
عهد الناس بالحب والمحبين أن يكون فراق الحبيب أمرًا هائلًا، ولكن من خبروا
الحب لا يستبعدون أن يتسم ذلك الفراق بطابع البساطة ولا سيما إذا كان الحب عذريًا
عفيفا لا يتعلق بالجسد قدر ما يتعلق بالروح.
أما أنا فكان شأني وذلك الفراق شأن من يلقي نفسه فجأة في بلد غريب موحش لا
يعرف من أهله أحدًا، ولا يستطيع التفاهم مع الناس لأنهم ليس فيهم من يعرف لغته.
التحقت بكلية التربية جامعة القاهرة وسكنت في المدينة الجامعية وكان حبي
لابنة عمي قمينًا أن يزداد بذلك الفراق، لأنه في نظري موضوع حياتي الوحيد، ولا شغل
لي سواه، حتى الدراسة والوظيفة لن تكون بديلا عنه يوما من الأيام، فبغيره حياتي
تكون غير ذات جدوى أو موضوع.
ولا تسل عن نفاد صبري في أول ليلة أقضيها بالمدينة الجامعية وما كان أشوقني
إلى الخلوة مع نفسي بعيدًا عن أعين الزملاء حتى أتلو خطابها العزيز؛ ذلكم الخطاب
الذي منذ تسلمته وأنا أشعر بالبشر حولي في كل مكان، وكم من مرة كنت أمد يدي في
جيبي فأتحسسه كما يتحسس الشرطي مسدسه وقت الريبة والأخطار، حتى إذا نام من معي في
الحجرة المشتركة وهدأ المكان صعدت فوق سطح المبنى وعلى ضوء أعمدة الكهرباء رحت
أقبّل الورقة المطوية التي سطرت بنبضات قلب حنون.
وأخيرًا لم أجد على مرمى البصر إنسانًا، فجعلت أقرأ ما سطر في الورقة وأعيد
تلاوته عشرات المرات:
"حبيبي، اسمح
لي أن أبين لك مبلغ ما في حبي لك من قوة تتنزه عن الهوى والغرض، كيف وأنا أكن لك
من المحبة ما يجعلني لا أبغي لك سوى السعادة والهناء تمامًا كما تبغي الأم الرؤوم
لابنها المحسن البار؛ نعم، هذا ما دفعني إلى مداومة التفكير في تلك القوانين
والنواميس التي تهيمن على حياة المحبين. واسمح لي أن أعلنك بلا حرج، أنني مهما
بُحت لك بما في جوانحي فإنه يبقى غيضا من فيض لن يبلغ خيالك مداه.
أجل يا ابن العم، إني أحمل لك عاطفة لن تموت. فثق بما أقول واحذر بنات
الجامعة ولا ترخص هواك، بل احفظه طاهرًا سليمًا لذلك القلب الذي يستحقه بما يبذله
لك من وجد وحب لا يعرف الحدود ولا تخبو حرارته مهما طال الانتظار.
أحبك بصدق، وحبي لا يعرف التجاوز، ولا يعرف الانفلات، ولا يعرف الكمون".
زودني ذلك الخطاب بكل المعاني الإنسانية السامية، ولم أشك لحظة في صدقها
وفي عفافها الأمر الذي جعلني أخوض معترك الحياة بقلبين وليس بقلب واحد!
بهذه الطاقة
الإيجابية المشحونة حبًا وصبابة بدأت الدراسة.
ووليت بعد ذلك وجهي شطر صديق قديم لأبي يعمل بالتدريس في الجامعة، ولما
قابلته استرحت إليه واستراح إليّ وقد عنى بتذليل كل الصعاب التي واجهتني في بداية
تعليمي الجامعي، وقد وجدت هذا الإنسان الخلوق مثالًا مجسمًا للبساطة والتواضع
والكرم، فقد عرض عليّ الإقامة معه ومع أولاده وأن يُخصص لي حجرة في داره وكان
جادًا في هذا العرض، وفتحت له صدري وحكيت له قصتي مع ابنة عمي فاستاء جدًا وحزن
حزنًا شديدًا لعدم إتمامها تعليمها، وقال متحسرا على مستقبلها:
-
هذه البنت لو
أكملت تعليمها لكان مكانها الآن كلية الطب.
ثم لم يلبث أن قدّم إليَّ معروفًا لن أنساه، فبحكم عمله استدعاه مكتب الأمن
يومًا لسؤاله عني وسرّ تقرّبه مني، وعلم منهم لأول مرة، أن والدي يقضي حكما بالسجن
ليس لجرم جنائي ارتكبه، ولكنها السياسة، فلم يتغير ولم يتنصل من معرفته بي، بل
أشاد بانضباطي وبعدي عن السياسة، وأعلنهم أنه ضامن لي، فقال:
-
إنه ولد وطني، وأنا به كفيل.
تأثرت كثيرًا لهذا الحب وحمدت الله الذي ساق لي صديق والدي ليقدم لي هذه
الأيادي وأرجعت كل ذلك لوالدي وإخلاصه في الدعاء لي، فكأن دعاءه أو كل شيء يأتيني
من ناحيته يحميني ويعصمني من كل أذىً وسوء.
(5(
وجدتني أمي على سريري أبكي بمرارة بالغة، ومن ثمَّ بدأت تشعر بالخجل من
خشونتها معي، ولما لم تجد ما تقوله ظلت صامتة، وعندما توقفت عن البكاء، وهدأت
نفسي، قلت دون أن أنظر إليها:
-
أعلم أنَّكِ
لستِ أول أُمٍ تريد أن تفرح بزواج ابنتها، ولكني أيضًا لست أول فتاة تُعلن أمها من
يهواه قلبها.
انفجرت ثائرة:
-
إذن، فأنت
تصرين على هذا العبث؟ ما معنى الهوى وماذا تعرفين عن الحب؟ حب العيال لا يلزم
الكبار بشيء، وهذه الأسرة، أسرة عمك بالذات لا يرتاح لها قلبي ولا أريد أن تدوم
بيننا وبينها صلة ويكفي ما حدث، إنهم أسرة "ملطوطة" ألا تستوعبين؟ معذور
من يكره البنات وخلفة البنات.
لم أتفوه بكلمة، ولم أتحرك، وإنما ظللت في مكاني متشبثة بأطراف الغطاء،
أحملق فيه بعينين امتزجت فيهما نوازع الخوف والذهول والدهشة والحذر، وأجهشت
بالبكاء مرة أخرى وأخذت أردد:
-
لا...لا... لا
أستطيع...
-
يا ابنتي يا
حبيبتي، حبك لطالب لا معنى له، وإني لا أمنعك من حبه، وإنما أمنعك من الزواج به،
ألا تفهمين؟
كنت خلال هذه الفترة من الجدال أفكر بسرعة، إنني أستطيع أن أستمر متشبثة
برأيي، فماذا ستكون النتيجة؟ إن أهلي بدورهم يستطيعون أن يرغموني إذا أرادوا..
إنني تحت حكمهم.
ولو أنني كنت في التعليم، لاختلف الوضع، وتحججت به. أما وأنا عارية منه،
فإن بمقدورهم أن يَزِنّوا على أذني بلا كلل ولا ملل، بل وأن يزوجوني أيضًا دون أن
أدري، وبخاصة وأن عمري قد اقترب من السن القانونية للزواج.
لكن لم يستقر رأيي على إرضائهم، فشددت الغطاء وجعلته على جميع جسدي منهية
الحوار بيني وبين أمي.
وفي المنام جاءني الحبيب وكنت أرقد على نجيل طويل تسطع عليه شمس الأصيل
فجعل يرنو إليَّ بنظرات مشحونة بالحب وابتسامة حانية فأشرت إليه فألقى بالكتب ورقد
على النجيل بجواري في أحضان الطبيعة بعيدًا عن معارك البشر التي تخاض يوميًا من
أجل لا شيء.
نسيت معه كل شيء وتمنيت لو أن حرارة الحب تذيبنا، وفي الوقت الذي أخذني بين
ذراعيه ازددت تشبثا به، وقلت بصوت متهدج:
-
سيجبرونني على
الزواج.. لا.. لا.. لن أستطيع أن أجد للحياة طعمًا وأنا بعيدة عنك.. دعني أبقى
معك، دعني أعيش بين ذراعيك إلى آخر لحظة من عمري.
فضمني إلى صدره بحنان، وكتم شهقات بكائي بقبلاته، وهمس قائلًا:
-
أتحبينني إلى
هذا الحدّ؟ إلى حد التضحية بالعريس الغني؟
فقلت بكلمات تبللها الدموع:
-
أتعني ماله؟
إنني لم أفكر في هذا يومًا، ولن يهمني أكثر من أن أعيش معك.. أن أحبك إلى آخر لحظة
من عمري.. إن أموال الدنيا لن تغريني بالانفصال عنك..
ثم أردفت:
-
إنني لست
ملكًا لأحد.. لي أسرة وعائلة، ومع ذلك من حقي أن أشاور في أمر يخصني ويخص سعادتي
وحياتي.. وأنا لا أرغمك على الزواج بي، وإنما أرجو منك فقط أن تبادلني حبًا بحب،
عسى أن نجتمع يومًا ما فلا نفترق بعده أبدا.. أبدا.
وفي الصباح راودني إحساس بمكرٍ يُراد بي ويُدبر بليل من وراء ظهري ولا
أستطيع دفعه.
وخرجت لشراء مستلزمات للمشغل، وعند عودتي متورمة القدمين من كثرة المشي
مددت بصري فزعة وأنا ألمح عددا كبيرًا من رجال ونساء العائلة قد تجمعوا حول ثلاث
سيارات أمام المنزل.
خفت أن أتقدم خطوة وأمسكت بجدار منزل أحتمي به، فصاحت بي أمي أن أتقدم
وأركب السيارة، فتسمرت في مكاني، فدفعتني دفعا، فلهجت بالدعاء بصوت منخفض:
"بيني وبينك ربنا"، فابتسمت ابتسامة باردة وأمرت من يصعد بالمشتريات إلى
المشغل.
كانت وجهة السيارات شارع الصاغة، وأمام أحد المحلات توقفت السيارة التي
تقلني وأنزلوني لشراء شبكتي والاحتفال بهذه المناسبة أمام المحل بتوزيع الحلوى
والمشروبات، وبذلك تمت خطبتي قهرًا لشريكنا في المشغل من غير مشورة ولا تهيئة ولا
تمهيد.
(6)
دخلت محل الصاغة زائغة النظرات غير حافلة بالزغاريد التي تحيط بي ولا
بالدعوات والتبريكات التي كانت تتساقط عليَّ من أمي وأقاربي واستبدت بها حالة من
اليأس فتركتهم يعبثون بي كما يشاءون وكأنني طفلة في المهد.
وحدث شيء عجيب غير متوقع هو أن حالة اليأس التي غمرتني سرعان ما انقشعت فور
استدعائي طيف ابن العم الحبيب فكأنه هو مَنْ يُلبسني الشبكة ويَمسك بيدي بحنان،
وكأنه هو مَنْ يجلس بجواري يكاد يحضنني من شدة الالتصاق، إلى الدرجة التي جعلتني
أهمس في أذنه أحذره:
-
اتزن في
مشاعرك إنك لم تَكتبْ عليّ بعد!
وطار فؤاد "العريس" من الفرحة والحبور، فهذه أول مرة أحادثه فيها
بهذا الدلال وهذه النعومة، وكان قد جهز الشقة بالدور الرابع وأثثها بأفخر الأثاث،
وهكذا بات منزل شارع الحلو بطنطا يمثل لي حياتي؛ ففيها الحبيب وذكريات الصبا،
وفيها أبي وإخوتي وأمي، وفيها مشغلي وعملي، وفيها أبناء عمي الذين أشم فيهم رائحة
الحبيب في أي وقت مهما غاب، فضلا عن أنني ولدت فيه أولادي الذين هم قرة عيني.
زادتني رسالته التي تسلمتها من أخته تشبثًا بطيفه المحبوب فعزمت على
استدعائه في كل وقت وحين.
كتب لي يقول: "حتى على البعد، أشعر كأنني أعيش داخل قلبك، أحس بروحك،
وأتشبث بقوتك فأخوض الخطر وأندفع لما يؤلمني ويعذبني وأنا واثق من النجاة".
وشهد يوم 28 سبتمبر 1970م زواجها وهو اليوم الذي شهد وفاة جمال عبد الناصر،
ولم تضن على زوجها -المفروض عليها- بأي حق من حقوقه، بل تخلصت من الضيق الذي شعرت
به باستدعاء طيف ابن عمها فأسعفها، وهكذا احتوت تلك الأيام.
)7(
شغل الحبيب نفسه بالاجتهاد خلال سنوات الدراسة، واستطاع أن يتخرج بتقدير
جيد جدا، وعين مدرسًا بالإسكندرية، ومن يومها وهو يُغرق نفسه في العمل، وفي الدروس
الخصوصية، ولم يسمح لنفسه أن تعتبر نزوله إلى طنطا مجرد عطلة، بل آل على نفسه خدمة
من يحتاج لمساعدته، وبخاصة أبناء معارفه وجيرانه، فكان يعطيهم الدروس بالمجان
معتبرا ذلك صدقة العلم.
وبينما هو في قمة حماسته للعمل واندفاعه للعطاء لبى نداء الوطنية واشترك في
حرب الاستنزاف وخرج منها سالمًا عام 1971م.
وفي أول زيارة له لطنطا عقب انتهاء فترة تجنيده تسلم رسالة موجزة من ابنة
عمه تقول فيها:
"لا تجعل
للشيطان إليك سبيلا يقلل من حبك لي أو يلقي إليك أن حبي لك سوف يتأثر بالزواج
والإنجاب، فحبك يجري في دمي. وأستسمحك أن تغفر لي؛ لم يكن أمامي حل آخر سوى
الاحتفاظ بحبك بعيدا عن الإساءة إلى زوجي. إن حبا كبيرا رائعا مثل حبك لا يمكن أن
يكون مغامرة أو مقامرة، حتى ولو لم يكلل بالزواج. لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك
أمرا".
ومرت السنين بلا لقاء أو حتى رسالة بين الحبيبين، طوال 30 سنة لا رؤية، ولا
لقاء، ولا حديث، ولا رسالة، صبر ما بعده صبر، نعم؛ بعد مضي ثلاثين عاما جاءها
معزيا في وفاة زوجها، وقد كبر أبناؤها وتزوجوا، وقبل أن يهم بالانصراف سألها:
-
أما زلتِ على
العهد؟
-
بلى.
)8(
خلال ثلاثين عاما تزوج ابن عمي وأنجب وسافر وعاد من السفر وكبر أولاده
وتزوجوا، ولما حان الوقت للحبيبين أن يلتقيا في عش يجمعهما، وجدا المجتمع يقف لهما
بالمرصاد، فأنا أصبحت جدة وأبنائي تجار لهم اسمهم، وبناتي تحت رجال لهم مناصبهم
ووجاهتهم في المجتمع، وهكذا الحال مع ابن عمي، لكنه ألح في الزواج وقال نتحدى
الأوضاع الاجتماعية وليحدث ما يحدث، إلا أنني رفضت رفضا قاطعا إعلان الزواج للأقارب
رحمة به وبي من أن يجرح حبنا عزول أو حقود أو حسود.
تزوجنا بالفعل، على نية أن يكون زواجًا للمؤانسة محدودًا يبيح لنا اللقاء
متى شئنا، ولم يكن لنا بيت للزوجية، وإنما نلتقي في منزل ابنة خالي التي تعيش
بمفردها في شقة كبيرة بالقاهرة بعد وفاة زوجها، وكنت قد هيأت نفسي قبل ليلة الزفاف
كعروسة عذراء لم يُدخل بها من قبل، وتحمست لذلك حماسا مثيرا ومفرحا، وبعد نوم عميق
شاغبته في الصباح:
-
كنتَ ابن
الثلاثين!
-
وكنتِ ابنة
العشرين!
وبحدس غريزي تعجبت منه كثيرا شعرتُ أنني قد خصبت وأنني سأكون أمًّا وسني
فوق الخمسين!
وأكده لي قول حبيبي: لم أجد بشرة أنعم من بشرتك، فقلت له بتلقائية خبيرة
نساء وتوليد:
-
طبيعي.
-
ما هو
الطبيعي؟
-
لأني أعتقد
أنني خصبة الآن.
ضحك في سخرية، ثم أفاق إلى موقفه فاستطرد:
-
حقا تكون
معجزة!
وكأن الله بحكمته أراد أن يعوضنا ما فاتنا من سنين فأبى إلا أن يُريني ويُريه
ويُري ابنة خالي امتلاء جسمي منه؛ هذا الامتلاء الذي فرض عليَّ المكث عندها -تحت
ذريعة تمريضها- لما يزيد على تسعة أشهر!
وفي هذه الأشهر التسعة جاءته فرصة للإقامة بأستراليا مع ابنه الذي يعمل
بالسلك الدبلوماسي هناك، لم أصر على بقائه معي بمصر؛ رغم أنه كان يمكنه أن يترك أم
أولاده هناك وينزل لمصر متحججا بأكثر من حجة منطقية، إلا أنني لم أضغط في هذا
الأمر لأنني ببصيرتي وجدته فرحًا بالهجرة والانطلاق والعمل هناك فشق عليَّ أن
أصرفه عن ذلك!
نعم، رغم حملي منه، ورغم شدة احتياجي إليه، لم تصبني الغيرة أو الوساوس، بل
حباني الله بقلب كبير، يفهم الواقع ويرضى به ولا يصادمه، وكان أشد ما أتجنبه هو أن
أعكر صفو زوجي الحبيب.
وضعت بحمد الله "حملي" المعجزة وكان طفلا على رقبته شامة فصورته
وأرسلت صورته إليه وهو في أستراليا وخفق قلبي أملا أن يحن لحمله وتقبيله فينزل في
أول طائرة لنتشاور معا في حل لا يهدينا إلا إلى الستر، ولكنه لم ينزل فشاورت ابنة
خالي فقالت إنني -كما تعلمين- لا أنجب وأنا امرأة وحيدة وغنية، وأعتبر أنَّ معجزة
حملك في هذه السن قد أرادها الله ليس ليرضيك وزوجك فقط، وإنما ليرضيني معكما، فيظهر
أمام الجميع أنني "المتبنية" لهذا الطفل الجميل، وأعلم أنك كأمٍ لن
تستطيعي أن تفارقيه طويلا، فأنعم بمؤانستك لي في هذه الشقة الطويلة العريضة كل حين
وحين، فأعدي من الآن لوازم طفلك وأرسلي لأبيه هذا الحل البسيط لعل قلبه يرق له ولكِ
وينزل في أسرع وقت.
هكذا سارت الأمور، وأصبح ابننا الآن في أولى جامعة، يناديني بـ "خالتو"،
وينادي ابنة خالي بـ "ماما"، وينادي أبيه المهاجر دائما بـ "عمو"!
ولا أقول ضاع العمر يا ابن عمي لأنني لا يمكن أن أضيع حبي، إذ حبي لك باق
لا يمكن أن تغيره السنون والخطوب.
لكن ما أخشاه أن أموت وأنت بعيد عني، أو تموت وأنا بعيدة عنك، وينقبض قلبي
كلما أتذكر ابنك "أبو شامة في رقبته" هل آن الأوان ليعرفك ويعرفني؟ أم
أنها إرادة الله ولا بد من الرضا بما أراده الله.
بحثا عن نسمة أمان واطمئنان يصل القلم إلى هذه الفقرة من قصتي. سأعتبر أنها
رسالتي إلى:
ابني من زوجي الحبيب.
وإلى أبنائي من زوجي الراحل.
وإلى أهلي وأقاربي الذين لم أستطع مواجهتهم بزواجي وحملي من أحب الناس إلى
قلبي.
ولتكن كذلك هي شهادتي التي أقابل بها ربي.
تعليقات
إرسال تعليق