أحمد عبد الله الشيمي
في الثالث من يناير من العام (2023) رحل عن عالمنا أحد علماء اللغة الإنجليزية وآدابها، وواحد من أفذاذ الترجمة في مصر والعالم العربي، فقد رحل عن عمر يناهز الثالثة والثمانين أنفق أغلبها في طلب العلم بدءًا من كُتاب القرية ومرورًا بالمدارس الحكومية إلى جامعة القاهرة ثم إلى إنجلترا حيث حصل على الماجستير من جامعة لندن والدكتوراه في الشعر الإنجليزي من جامعة "رِدِنغ". يروي في سيرته الذاتية التي بعنوان: واحات العمر" أنه تتلمذ في جامعة القاهرة على أفذاذ منهم شوقي السكري ورشاد رشدي ومجدي وهبة، ثم عرف لويس عوض في بيته وكان يقرأ عنده الشعر ويعلق لويس عوض يريد أن يجعل من محمد عناني تلميذًا له. ولكن محمد عناني يتأثر أكثر ما يتأثر بالعلامة الدكتور مجدي وهبة المنحدر من طبقة قبطية شبه أرستقراطية، والمترجم القدير وصاحب المعجم ثلاثي اللغة في المصطلحات الأدبية. ونستطيع أن نقول إن الذي وجه محمد عناني شطر الترجمة هو مجدي وهبة الذي شجع الطالب الشاب حينذاك على نقل النصوص الإنجليزية إلى العربية، وخصه بالعناية والتصويب.
كما أن محمد عناني يحمل جينات عائلته، فقد كان أبوه من كبار المطلعين في الكتب، والعاشقين للمعرفة، وله كتاب موسوعي في طيور مصر، رغم أنه لم يُكمل تعليمه في كلية الآداب نظرًا لحاجة الأرض له كما يقول محمد عناني الابن في مذكراته أو سيرته الذاتية البارعة التي كتبها بأسلوب بسيط جذاب يُعد فتحًا في كتابة السيرة الذاتية غير المتجهمة. إذن قد ورث محمد عناني عن أبيه حب النظر في الكتب وحب التأمل والميل إلى إشباع الفضول، كما ورث عشق اللغة العربية وآدابها، وعندما التحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة كان طبيعيًا أن يعشق اللغة الإنجليزية لا لشيء إلا لكي ينقل منها معارف إلى لغته التي يحبها ويعشق تراثها الثري.
ثم إن محمد عناني كان شاعرًا بالفطرة، وكتب فعلاً شعرًا نقرؤه في ديوان له اسمه "أغنيات الخريف"، وشعر محمد عناني ليس عظيمًا، وإنما هو أقرب إلى النظم على المنوال القديم، ولكن شعره يدل على أنه يطوي بين جنبيه نفسًا ذكية، وروحًا طامحة، وإرادة صلبة، وتصميمًا خفيًا لا يلين. وقد استثمر محمد عناني ملكة الشعر المتمكنة في أعماقه في الترجمة، فترجم الشعر الإنجليزي شعرًا، وهذا ما ساعده على ترجمة مسرحيات شيكسبير وسونيتاته وقصائده، وفردوس ملتون المفقود، ودون جوان "بايرون" وبعض قصائد و"وردزورث" وآخرين من سائر الرومانسيين الإنجليز، وهو ما ساعده أيضًا على نقل قصائد كثيرة لشعراء مصريين معاصرين له إلى اللغة الإنجليزية ومنهم فاروق شوشة ومحمد ابراهيم أبو سنة ومحمد آدم وصلاح عبد الصبور وغيرهم، في ضمن سلسلة بعنوان "الأدب العربي المعاصر"، أُنجز منها فعلاً نحو 75 عنوانًا إلى اللغة الإنجليزية ولغات أخرى مثل الألمانية والإسبانية، ضمت أعمالاً لنجيب محفوظ ويوسف إدريس ومحمود تيمور وغيرهم من الشعراء والأدباء، على أن المشروع توقف في 2002، ليعود من جديد في العام 2005 عندما تولى الدكتور ناصر الأنصاري مسئولية رئاسة هيئة الكتاب فتبنى مشروع "تصدير الفكر المصري مترجمًا".
جرب محمد عناني قلمه في كل شيء، في النقد الأدبي له ثلاثة كتب: النقد الموضوعي وفن الكوميديا، والأدب والحياة، وفي الرواية له رواية اسمها "الجزيرة الخضراء" وقصة شعرية اسمها "أيوب" (2004)، في المسرح له مسرحيات عُرضت على المسرح القومي ولاقت نجاحًا ما، ولكن محمد عناني تفوق في الترجمة تفوقًا ملحوظًا، بل أكاد أن أقول إن جميع مهاراته الأخرى في الرواية والشعر والمسرح والنقد سخرها للترجمة، فقد ترجم الشعر شعرًا، شاهدنا على ذلك نقله لوردزورث إلى العربية، ونقله لقصيدة دون جوان لبايرون، وسونيتات شيكسبير وفاوست جوته، وفي النقد ترجم كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، والثقافة والاستعمار.
وللدكتور محمد عناني جهوده في التنظير للترجمة بوصفها علمًا مستقلاً فٌذكر له "فن الترجمة"، و"مرشد المترجم" و"الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق"، ولكن محمد عناني أيضًا ناقد أدبي من الطراز الرفيع، وأن نقده الأدبي حاضر في كتبه التي ألفها في النقد الأدبي نذكر منها "النقد التحليلي" و"فن الكوميديا" و"الأدب وفنونه" و"قضايا الأدب الحديث"، و"دراسات في الأدب والشعر"، وأرى أن محمد عناني الناقد إنما يُلتمس في المقدمات الثرة التي كان يصدِّر بها ترجماته، هنا يستطيع الطالب أن يستنبط العناصر الأساسية لمدرسته النقدية التي جاءت مبعثرة في ثنايا هذه المقدمات والتصديرات التي حين يقرأها القارئ يلم بمدارس النقد كلها بدءًا من المدرسة الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى النقد الجديد إلى النصية إلى النفسية مرورًا بالتلقي واستجابة القارئ ووصولاً إلى النقد الثقافي والدراسات البينية ووصولاً إلى النقد البيئي.
كان إخلاصه للترجمة يفوق كل ناحية من النواحي المعرفية التي أدلى فيها بدلوه، فقد كان ناقدًا ولكنه لم يضن بموهبته النقدية على الترجمة، فكان يصدر ترجماته بمقدمات نقدية تزيد أحيانًا على المئتي صفحة، غير الشروح والهوامش والملاحق، وكان شاعرًا ولكنه لم يضن بموهبته الشعرية على الترجمة أيضًا، فاستثمرها في ترجمة "الفردوس المفقود" ومسرحيات شكيسبير شعرًا، وما ترجمه من شعر العربية كما أسلفنا. وترجم مختارات من شعر الشعراء الإنجليز الرومانسين وعلى رأسهم وردزورث الذي تخصص في شعره في مرحلة الدكتوراه في جامعة "ردنج" في إنجلترا، وترجم ملحمة بايرون الرومانسية الطويلة التي يسميها "دون جوان"، كما ترجم الكثير من الشعر العربي إلى اللغة الإنجليزية شعرًا، ومن الذين ترجم شعرهم فاروق شوشة ومحمد ابراهيم أبو سنة وفاروق جويدة ومحمد آدم وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري وسعاد الصباح وغيرهم كثيرين ممن صدرت أشعارهم بالإنجليزية ضمن سلسلة الأدب العربي المعاصر بالإنجليزية التي صدر منها ثلاثة وسبعين كتابًا عن هيئة الكتاب وكان هو مشرفًا عليها.
ومحمد عناني مبدع أصيل، ورغم أنه راح يوظف موهبته الإبداعية في الترجمة إلا أنه كتب نصوصًا مهمة، منها مسرحيات مثل ميت حلاوة والبر الغربي والغربان وجاسوس في قصر السلطان والدرويش والغازية وأصداء الصمت، ومنها ما عُرض على خشبة المسرح القومي وغيرها من المسارح. وله سيرة ذاتية من ثلاثة أجزاء كتبها بلغة هادئة ناعمة تجعلك لا تتركها إلا بعد أن تفرغ من مطالعتها كلها. ولكن لمحمد عناني شعر جميل يضاهي به أفضل الشعراء قامة وقيمة، نذكر له ديوان "أغنيات الخريف"، وقصة شعرية بعنوان "زوجة أيوب" يقول في مستهلها:
أعود إليكم رفاق المساء
بشعر قليل وفن أقل
وكنتم طلبتم نشيدًا جديدًا
به وابلُ الفرحِ أو قطرُ طل
ولكن كلَّ الذي في الحنايا
بقايا شباب هزيل ومَحل
فربة شعري التي اعتدتها
مضت لسواي إذ الشيبُ حلّ
وشأن الغواني عُزُوفٌ وصدُّ
إذا لاح في الرأس شيب يٌطلّ
ولكن قلبي شديد المِراس
وفي النفس دفع الهوى لا يكل
ودفق غرامِ بكل جميل
ولو تاه عن كلِّ عينٍ وضلّ
فلم أكترث لعوادي الزمانٍ
ولم اكترث لبلاء أجلّ
وهو شعر يدعونا إلى التفاؤل، فلم يكن محمد عناني متشائمًا، ولكنه كان متفائلاً أشد التفاؤل، وكان يشيع التفاؤل في تلاميذه والذين حالفهم الحظ مثلي في صداقته في العقدين الأخيرين من حياته.
كان دائرة ضوء، وقطبًا من أقطاب المعرفة، في اللغة الإنجليزية، علمنا كيف تكون اللغة الإنجليزية أداة للتنوير، وقيادة المجتمع إلى الأفضل !!!
تعليقات
إرسال تعليق