بقلم/ محمود سالم الشيخ
اهتز جسمي وارتبكت أعصابي لرؤية طفل لا يتجاوز سنه السبع سنوات بجوار جثة والده الميت. كان الولد يبكي وكانت تنهمر الدموع من عينيه بغزارة وهو يحاكي والده قائلا: "لما انت تسيبني مين هيصحيني عشان أصلي الفجر؟". لم يكن اهتمام الطفل بالأكل، بالملابس، باللعب، بالفسحة، ولا حتى بالسكن بعد أن تهدم منزلهم. ولم يكن ارتباطه بأبيه ارتباطا فقط عاطفيا أو مجرد علاقة ابن بأبيه، لكن ارتباطه بأبيه هو "ارتباط روحاني" أو إن شئنا، "ارتباط ديني" ، كما لو كان أبيه حلقة الوصل بينه وبين الله عز وجل، وذلك لأن الطفل، ككل أطفال غزة، يتحلى بتربية دينية أبعد ما تكون عن بقية المسلمين في كل أنحاء العالم، تربية أساسها الكتاب المقدس، القرآن الكريم، الكتاب الذي يحفظه الأطفال من سن الخمسة سنوات، وليس بحفظ "بغبغائي"، ميكانيكي، بل حفظ يُكمّله تفسير لما يقرأونه ويحفظونه. وهذا ما يميزهم عن بقية أطفال المسلمين: الإيمان من القلب، باقتناع.
ومن لم ير أو يسمع عن "الطفل المعجزة" الذي يسمونه "الشيخ محمد"، ولكنه ليس بمعجزة في بانوراما قطعة الأرض النائية المسماه ب "قطاع غزة"، التي أراد من سماها أن يفصلها عن جذورها. هذا "الطفل المعجزة" الذي يتحدث فقط "العربية الفصحي" حافظ القرآن والعديد من الأحاديث النبوبة، يقيم الدروس الدينية المفتوحة لكل راغب في التعلم، ويعتز بأن من بين "تلاميذه" رجالا كبارًا!
ويرجع كل ذلك إلي ثقافة سكان أهل غزة، ثقافة " الحياة المؤقتة في هذه الدنيا" والعمل للحياة الآخرة. فمن لم يسمع بالطفل الذي سأله أحد الصحفيين عما يفكر أن يعمل في المستقبل، وهو يقول: "نحن أطفال غزة لا نكبر لأننا عادة ما نقتل أطفالا في أي وقت علي يد أحد الإسرائيليين، في الشارع، تحت أنقاض المنزل، فى المدرسة أو في المشفى".
ويقودنا رد هذا الطفل إلى مفهوم "الموت" في هذه القطعة من أرض فلسطين، هذه الأرض التي تبعد عن بقية أراضي الإسلام، ليس فقط في المسافة، بل في الثقافة والإيمان، تبعدها عن الأرض عصور وتقربها إلى السماء. فكما أن الحياة بالنسبة للغزاوية "مؤقتة" فالموت بالنسبة لهم "استشهاد" وموتاهم، لقربهم من السماء، شهداء تنتظرهم الملائكة على أبواب الجنة. لذا إذا سألت يتيما من أطفال غزة عن والديه، يرد قائلا: "سبقوني في الاستشهاد".
تعليقات
إرسال تعليق