د. وليد الإمام مبارك
المنسق الإداري لمركز دراسات التراث جامعة القاهرة
الباحث في تاريخ العلوم والتراث العربي المخطوط
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وسلامٌ على من أُرسل رحمةً للعالمين، سيدنا
محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
السيدات
والسادة الحضور الكرام،
يسعدني
ويشرّفني أن أكون معكم اليوم في هذا اللقاء الثقافي العلمي، الذي يجمعنا في رحاب
جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، هذا الصرح الأكاديمي الرائد الذي يجمع بين الحداثة
والأصالة، ويولي عنايةً بالغة بالبحث العلمي، والاعتزاز بالهوية الحضارية العربية
والإسلامية، ويُعد بحق أحد منارات التعليم الجامعي المتطور في مصر والعالم العربي.
ويكتسب
لقاؤنا اليوم طابعًا خاصًا، إذ يتزامن مع احتفالنا بـ يوم المخطوط العربي، والذي
يحمل هذا العام شعارًا يليق بمقام التراث وسموّ رسالته: "المخطوط حياة أمة
ورائد حضارة".
إنه
يومٌ نستلهم فيه مجدنا العلمي، ونُحيي فيه صفحاتٍ خالدة من تراثنا المخطوط، الذي
حفظ للإنسانية كنوزًا من المعرفة، وأسّس لحضارةٍ علمية سطعت أنوارها من بغداد
ودمشق والقاهرة إلى الأندلس وغرناطة، فأنارت دروب الفكر في الشرق والغرب.
ويسرّني
أن أتوجه بخالص التحية والتقدير إلى:
السيد
الأستاذ/ خالد الطوخي، رئيس مجلس أمناء الجامعة، لدعمه المستمر لمسيرة العلم
والبحث.
الأستاذ
الدكتور/ نهاد المحبوب، القائم بأعمال رئيس الجامعة وعميد كلية الطب البشري.
الأستاذة
الدكتورة/ أميمة الشال، عميدة كلية الآثار والإرشاد السياحي.
الأستاذ
الدكتور/ أنس عطية الفقي، مدير مركز تحقيق التراث العربي.
كما
أرحب بجميع السادة العمداء، وأعضاء هيئة التدريس، والباحثين، والطلاب، وكل
المهتمين بالشأن التراثي والمعرفي، شاكرًا حضوركم ومشاركتكم الكريمة.
حين
نتأمل هذا الشعار، ندرك أنه ليس مجرد كلمات تُزيّن مناسبة، بل هو وصف دقيق لحقيقة
كبرى هي أن المخطوطات ليست بقايا ماضٍ مندثر، بل هي نبضٌ من أعماق حضارة حيّة،
تشهد على نضج علمي وفكري عاشته أمتنا، وأسهمت به في مسيرة الإنسانية.
ونحن
في هذه المناسبة، نقف أمام نوع خاص من هذا التراث، وهو التراث العلمي الطبي، وبوجه
أخص، ما يتصل بـ علم التشريح، ذلك العلم الذي كان وما يزال أحد مفاتيح فهم الجسد
الإنساني، وتشخيص الأمراض، وتطوّر الطب.
وربما
يظن البعض أن علم التشريح لم يعرف له حضورًا في العالم العربي إلا مع العصر
الحديث، وهذا خطأ شائع. فالحقيقة أن المسلمين تناولوا علم التشريح منذ القرون
الأولى للهجرة، بدءًا من ترجمات كتب جالينوس وأبقراط، ومرورًا بابن سينا والزهراوي
وابن النفيس، وانتهاءً بعلماء الأزهر الشريف في العصر العثماني.
وفي
هذا السياق، يبرز أمامنا عالمٌ جليل، قلّ من يعرفه في زماننا، هو الشيخ أحمد بن
عبد المنعم الدمنهوري، شيخ الأزهر خلال القرن السابع عشر والثامن عشر، ومؤلف كتاب
"القول الصريح في علم التشريح"، الذي سنتوقف عنده اليوم.
من هو الشيخ أحمد الدمنهوري؟
ولد الشيخ أحمد الدمنهوري عام 1101 هـ / 1689 م، في بلدة
دمنهور، وتلقى تعليمه في الأزهر الشريف، ثم ارتقى في مراتب العلم حتى تولى مشيخة
الجامع الأزهر، وكان من العلماء الموسوعيين الذين جمعوا بين العلوم الدينية
والعلوم الطبيعية.
لم يكن الدمنهوري منغلقًا على الفقه والتفسير والحديث
فحسب، بل أقبل على دراسة الحساب والفلك والمنطق والعلوم الطبية، وعبّر عن هذا
الانفتاح العلمي من خلال مؤلفاته، وعلى رأسها كتاب القول الصريح في علم التشريح.
عرض الكتاب:
إن
هذا الكتاب – الذي قمتُ بتحقيقه اعتمادًا على مخطوطات أصيلة – لا يمثل فقط محاولة
علمية لتعليم التشريح، بل هو شهادة ناطقة على حضور العلوم الطبيعية في أروقة
الأزهر، وتأكيد على أن علماءنا لم يضادوا العلم، بل تبنّوه وأدخلوه في مناهجهم،
وحرصوا على تبسيطه وتدريسه.
الكتاب
لا يسهب في التشريح بطريقة أكاديمية معقدة، بل يقدّمه بأسلوب تعليمي ميسر، موجّه
للطلبة وعموم المهتمين، ويستعرض فيه المؤلف أعضاء الجسد، وظائفها، وأهمية كل عضو،
في لغة تجمع بين الدقة والبساطة.
في مقدمة كتابه، يُعلن الشيخ أحمد الدمنهوري بوضوح أن
علم التشريح ضرورة لا غنى عنها لكل من يريد فهم الطب وممارسته. بل يربط بين هذا
العلم وبين القدرة على التشخيص والعلاج.
ويكتب بلسان المتواضع، المتبتّل إلى ربه، المُخلص في طلب
النفع للناس. ويبدو في مقدمته ملمح فريد: أنه يقدّم علمًا حديثًا في صياغة دينية
وتقليدية، مما يُظهر عبقريته في التوفيق بين الفقه والطب، وبين روح الدين ودقة
العلم.
ثم يضع لنا هيكلًا واضحًا للكتاب: مقدمة، بابان، وخاتمة،
تمامًا كما لو كان يُدرّس منهجًا جامعيًا متكاملاً.
ينقسم الكتاب إلى مقدمة في تعريف التشريح.
الباب الأول: في الأعضاء البسيطة (العظام، العضلات...).
الباب الثاني: في الأعضاء المركبة (القلب، الكبد،
الرئتين...).
خاتمة: في المزاج، وهو مفهوم طبي قديم يربط بين العناصر
والأخلاط في الجسد.
ما يميز الكتاب هو أنه لم يكن مجرد نقل، بل كان شرحًا
وتبسيطًا وتعليقًا، بلغة فيها خشوع وتأمل في خلق الله، وهو ما يتضح في العبارات
التي يكررها مثل:
“التوصل إلى
معرفة البارئ - جلَّ وعلا - وقدرته ودقيق حكمته …”،
ولعلكم
تتساءلون: ما قيمة هذا الكتاب اليوم؟
الجواب
أن قيمته تكمن في كونه حلقة متأخرة من سلسلة التراث الطبي الإسلامي، كما أنه يُظهر
لنا كيف كان الأزهر منفتحًا على علوم الطبيعة، مستوعبًا لها ضمن منظومته العلمية.
بل
إننا نلاحظ أن الدمنهوري – وهو فقيه وأصولي ومفسر – لم يرَ في التشريح علمًا
غريبًا عن الدين، بل اعتبره وسيلة لفهم خلق الله وإعجاز صنعه، فكان يمزج بين النص
الشرعي والمعلومة العلمية بطريقة تدعو إلى التأمل والاحترام.
ومن
خلال هذا المخطوط، يمكننا أن نردّ على كثير من الاتهامات التي تصور التراث العربي
الإسلامي على أنه منغلق على العلوم التجريبية أو معادٍ لها.
فالكتاب،
بحد ذاته، وثيقة فكرية مهمة تثبت أن العقل العلمي كان حاضرًا، وأن الوعي بالجسد
والكون والمادة لم يكن غائبًا عن عقول علمائنا.
"فيقول المتشبث بأذيال عفو مولاه العلي، أحمد
الدمنهوري الحنفي المالكي الشافعي الحنبلي: هذا ما التمس مني بعض الإخوان، من
مختصر في علم تشريح الأبدان؛ لضرورة من يريد الشروع في علم الطب إليه، وعدم تشخيص
مرض أو علاجه إلا بالتعويل عليه."
التحليل والعرض:
-
يبدأ الدمنهوري كلامه بـ "المتشبث بأذيال عفو مولاه
العلي"، وهو تعبير مليء بالتواضع، يدل على الروح الصوفية والخشوع، وهذا شائع
في مقدمة المؤلفات الإسلامية.
-
الدمنهوري يصرح بأن التشريح ضروري لمن أراد أن يدرس
الطب، وأنه لا يمكن تشخيص المرض أو علاجه بدونه، وهذا مهم جدًا في سياق تاريخ
الطب، حيث كانت هناك تحفظات في بعض العصور على دراسة الجسد.
-
الشيخ لا يكتب من فراغ، بل استجابة لطلب من طلابه أو
"الإخوان"، مما يدل على أن هناك طلبًا على هذا النوع من العلم، وأنه كان
يُدرّس ويُتداول داخل الأزهر.
-
قوله: الحنفي المالكي الشافعي الحنبلي، إشارة إلى سعة
اطلاعه، ورغبته في خطاب جمهور واسع من طلاب العلم في الأزهر، وهذا يُظهر انفتاحه
الفكري ومرونته في تبني ما ينفع من كل مذهب.
خاتمة:
القول الصريح في علم التشريح ليس فقط درسًا في الطب، بل
هو شهادة على أن العلم كان ولا يزال، جزءًا من رسالتنا الحضارية.
وأخيرًا، أدعوكم أن نتأمل هذا التراث، لا كصفحاتٍ من
الماضي، بل كرسالة حية، تستحق أن تُقرأ، وتُدرّس، ويُعاد إحياؤها في مناهجنا
ومؤسساتنا.
والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليقات
إرسال تعليق