بقلم/ أ.د. محمود سالم الشيخ
يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، إن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر، ذلك لأنهم أي أهل الحضر قد "ألقوا جُنوبَهم على مِهاد الراحة والدّعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكّلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم، والحاكم الذي يَسوسُهم، والحامية التي تولت حِراستهم، واستناموا إلى الأسْوار التي تحوطهم والجِرز الذي يحول دونهم، لا تُهيجُهم هيفة ولا يُنفّر لهم صيد، فهم غارّون آمنون، قد ألقوا السلاح، ورَبِيَتْ على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيالٌ على أبي مثواهم، حتى صار ذلك خُلق يتنزل منزلة الطبيعة. وأهل البدو، لتفرّدهم عن المجتمع، وتوحّشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب، قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يَكِلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم، فهم دائما يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، ويتجافون عن الهُجوع إلا غرارا في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، يتوجّسون للنبآت والهيْعات، وينفردون في القفر والبيداء، مُدلّين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خُلُقا، والشجاعة سَجيّة، يرجعون إليها متى دعاهم داعٍ أو استفزهم صارخٌ".
لم يكن يتوقع ابن خلدون أن رعاة الإبل والماعز في بلاد الخليج والجزيرة العربية، بعد سبعة قرون من وفاته، سيقلبون نظريته رأسا على عقب، وادعين بين يدي ألد أعدائهم ما مَنّ الله عليهم به من خيرات، كانت ربما تكفي لإغاثة ملايين الضحايا، وتفيض عن حاجة البؤساء المنتشرين في بقاع الأرض.
رحم الله أبو زيد، وهدى الله رعاة الإبل والماعز! ولعن من يريد دفن التاريخ ومحو التراثّ!
تعليقات
إرسال تعليق