عبد الرحمن هاشم
في مجموعته القصصية "دنيا الله"، يكشف نجيب محفوظ عن وجه آخر لعالمه السردي؛ وجه تغلب عليه الروحانية والتأمل، ويهيمن عليه الإيمان العميق بالقضاء والقدر، واليقين بأن في هذا الوجود قوى تتجاوز الحسابات المنطقية والمظاهر الخادعة.
روح صوفية وقلب مكلوم
تفيض قصص المجموعة بروح صوفية شفافة، حيث يبدو التسليم لله هو المخرج الوحيد من حيرة البشر، ومكابداتهم في عالم يمتلئ بالظلم والتفاوت. لا يركن محفوظ إلى الأشكال الدينية الظاهرة، بل يغوص في أعماق الوجدان الإنساني، حيث يكون الإيمان صراعًا داخليًّا لا مظهرًا خارجيًّا.
المقهورون في مواجهة المتسلطين
يمنح محفوظ صوتًا للمهمشين والمقهورين، كاشفًا عن بشاعة استغلال الضعفاء من قبل المتجبرين. يعرض صورًا اجتماعية موجعة، حيث الفقر والجهل والاستبداد تتكالب على الإنسان، وتجعله في حالة من التيه الروحي والمعيشي، فلا يجد ملاذًا إلا في الحلم أو في التسليم المطلق للقَدَر.
الحلم كمهرب من القهر
في بعض القصص، نجد الأبطال يحلمون بعالم مغاير؛ حياة منصفة وعادلة يعيشونها في المنام، بينما تظل حياتهم الواقعية قاحلة لا حياة فيها. يقدم محفوظ الحلم هنا ليس باعتباره مجرد رغبة دفينة، بل كوسيلة نفسية وفلسفية للهروب من واقع غير قابل للتبدل.
الفطرة التي توقظها الصدمة
تُبرز بعض القصص فكرة أن الإنسان قد يعيش بعيدًا عن فطرته السليمة بفعل بيئة فاسدة أو نظام منحرف، حتى إذا ما أصابته هزة قوية أو صدمة عنيفة، عاد إلى أصله النقي، وخرج من غيبوبة الغفلة. وهو بذلك يؤكد إمكانية الإصلاح والتوبة والعودة، حتى بعد مسارات طويلة من الفساد والاستهتار.
"دنيا الله": إشارات تتجاوز الحكي
ليست "دنيا الله" مجرد مجموعة من القصص، بل هي نصوص إيقاظية، تُضيء زوايا مظلمة في النفس والمجتمع، وتدعو القارئ إلى التأمل في مصيره، وعلاقته بالخالق، وبالناس من حوله. إنها لحظة تأمل عميقة في الوجود، وفي قسوة الواقع، وفي فرص الخلاص، حين يمتزج الوعي بالواقع بالإيمان بالغيب.
تعليقات
إرسال تعليق