د. وليد مبارك
الفرق الجوهري بين العبقري والإنسان العادي لا يكمن فقط في القدرات العقلية أو سرعة الفهم، بل في القدرة على اختراق حجاب المألوف. فالعبقري لا يستسلم لما اعتاده الناس، بل ينظر إلى ما يعتبره الآخرون أمرًا بديهيًا على أنه لغز يحتاج إلى تفسير، ويتساءل: "هل هذا أمر طبيعي حقًا؟ أم أن وراءه سرًا آخر؟"
إنه يفكر بطريقة مختلفة، ويملك الشجاعة على التحرر من أسر العادة.
أما الإنسان العادي، فيعيش محاطًا بـ"غواشي" الحياة اليومية، مكبَّلًا بقيودها الخفية. هذه القيود ليست بالضرورة مادية، بل هي ألوان من الشهوات والأطماع: حب المال، والرغبة في الشهرة، والسعي وراء السلطة، والانغماس في ملذات الأكل والشرب، ومشتهيات النفس. هذه كلها تشبه الوثاق الخفي الذي يلتصق بالعقل، فيمنعه من التحليق بخيال حر، ويجعل صاحبه أسيرًا لأنماط التفكير المألوفة.
العبقرية، في جوهرها، قدرة على الانفصال عن هذه الروابط. فالعبقري يستطيع أن يخرج من دائرة المحبوبات المألوفة، ويتحرر من الانشغال الدائم بجمع المال أو السعي وراء السلطة والسمعة. يستطيع أن يكسر القيود التي يفرضها عليه "الطبع البشري" المأسور بالعادات.
ولهذا يقول العارفون بالله: "أهم شرط في العارف خرق العوائد"، أي كسر أسر العادات. ويضيفون أن أعظم صفة للإنسان أن يقاوم ما يحب ويتحمل ما يكره. فبهذا الشرط وحده يمكن للإنسان أن يكسر شرنقته، وأن يخرج من الحياة المادية بكل ما فيها من لزوجة وغواشي تحجب الرؤية الصافية.
هذه الشرنقة هي الواقع المألوف، بكل ما يحيط به من رغبات، وصراعات، وأطماع، وعلاقات يومية متشابكة. والخروج منها هو الخطوة الأولى نحو الحرية الفكرية والروحية، بل هو أساس الإنسانية كلها.
إن مقاومة ما تحب وتحمل ما تكره ليست دعوة إلى الزهد السلبي أو رفض متع الحياة، بل هي دعوة إلى امتلاك زمام النفس، وتحرير العقل من أسر الرغبات، حتى يستطيع أن ينطلق إلى آفاق أرحب من الفهم والإبداع.
ففي لحظة التحرر هذه، يولد الفكر الخلاق، وتشرق العبقرية.
تعليقات
إرسال تعليق