عبد الرحمن هاشم
يبسط الله الرزق -مع رحمته- فإذا هو متاع طيب، ورخاء حلال، وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة. ويمسك رحمته فإذا الرزق مثار قلق وخوف، أو سبب للحرمان بالبخل أو المرض، أو مهلكة بالتبذير والاستهتار.
ما سبق، فتحٌ فتح الله به على الأستاذ سيد قطب في تفسيره لآية سورة فاطر "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" فاطر : 2. وبقية المقال يدور حول هذه الفكرة أي آثار فتح باب الرحمة وما ينتج عنه في دنيا البشر، والعكس ندركه بطبيعة الحال حين يغلق الله باب رحمته أو يمنعها عن الوصول لأحد من خلقه، نعوذ بالله من ذلك.
ومن يشهد الله وهو يرسل رحمته يكتشف الآتي:
يمنح الله الذرية -مع رحمته- فإذا هي زينة في الحياة، ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله. ويمسك رحمته، فإذا الذرية بلاء ونكد، ومصدر عنت وشقاء.
ويهب الله الصحة والقوة -مع رحمته- فإذا هي نعمة، وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة. ويمسك رحمته، فإذا القوة وبال على صاحبها، ينفقها في الفساد، ويجعلها أداة لتخريب الجسد وتسميم الروح، وادخارٍ للسوء ليوم الدين.
ويعطي الله الجاه والسلطان -مع رحمته- فيصبحان أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الأثر الطيب. ويمسك رحمته، فإذا هما مصدر طغيان، وخوف، ومثار حقد وموجدة، لا يقرّ بهما لصاحبهما قرار، ولا يستمتع بهما، ويكون بهما نصيب من الجحيم إن لم تُدركه الرحمة.
وقليل من المعرفة مع إرسال الرحمة يُثمر وينفع. وزهيد من المتاع إذا صاحبته الرحمة يُبهج ويسعد. وعمر قصير إذا غمرته الرحمة يُبارَك فيه.
الرحمة: سر الله في أرضه
ورحمة الله لا تعزُّ على طالبٍ لها، ولا على مضطرّ آوى إليها، في أي مكان، وتحت أي حال.
وجدها إبراهيم في النار، ووجدها يوسف في البئر، وموسى في التابوت، ووجدها رسول الله ﷺ في الغار، والقوم يتعقبونه. ووجدها أصحاب الكهف في كهف ضيق بعد أن افتقدوها في القصور والدور.
والرحيم من البشر لا يرحم غيره إلا لأنه يجد الرحمة من ربه.
قال المسيح عليه السلام: "طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون" (إنجيل متى 5: 7)
وفي التلمود: "العالم يبقى قائماً على ثلاثة أشياء: الحق والرحمة والسلام".
وقال الحاخام الشهير هليل الأكبر، في أحد أشهر أقواله التي يُستشهد بها في التراث اليهودي:"ما تكرهه لنفسك لا تفعله لغيرك، هذه هي التوراة كلها. الرحمة فوق الشريعة، لأن الله رحيم".
أما البوذية، فترى الرحمة (كارونا – Karuna) جوهرًا من جواهر التنوير، يقول بوذا: "درّب نفسك على أن يكون قلبك واسعًا كالمحيط، يفيض بالرحمة لكل حيّ، دون تفرقة".
وقد آمن المصري القديم أن الرحمة ميزان إلهي. فمن تعاليم بتاح حتب: "إن كنتَ قائداً فكن رؤوفاً، فالرحمة أعظم من البطش، وما يثبّت الحكم إلا عدلٌ تحفّه الرأفة".
و"ماعت"، إلهة العدل والحق، لم تكن تفصل بين العدل والرحمة. (انظر تعاليم بتاح حتب وكتاب الموتى).
وأشد العذاب ألا تجد للرحمة طعمًا، أو أن تغيب عنك فلا تشعر بها، أو أن يغشى قلبك شك في وجودها..."يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" يوسف: 87. وذاك – والله – لونٌ من الجحيم لا يُرى له دخان، ولا يسمع له صراخ، لكنه يمزق القلب في صمت.
يقول الشيخ محمد الغزالي: "الرحمة فيض من الله، يجري في عروق من أحبهم، ويصطفيهم ليكونوا ظل رحمته في الأرض".
وختاما: اشهدوا الله في رحمته، في لطفه إذا مسّنا الضر، وفي ستره إذا زلّت الأقدام.
من ذاق الرحمة لا يمكنه أن يردها عن أحد، ولا أن يَقصُرها على قوم دون قوم، أو طائفة دون طائفة. ولا يذوق الرحمة إلا صاحب قلب رحيم لا يظلم، ولسان لا يؤذي، ويد لا تؤلم أحدًا، ولا تبكي مخلوقًا.
تعليقات
إرسال تعليق