بقلم/ عبد الرحمن هاشم
(1)
منذ سفر زوجها بحثًا عن الرزق داخل الوطن، تحملت وحدها مسؤولية البيت والأبناء، حتى جاءها خطاب قبولها في الوظيفة التي حلمت بها طويلًا. لكن فرحتها ظلت ناقصة، فهي لا تكتمل إلا بعودة شريكها ليقف إلى جوارها. حين أخبروها أن أمامه فرصة عمل إن حضر للمقابلة، فرحت بشدة، لكن كيف السبيل إليه؟ لم تجد سبيلًا إلا الرجاء والدعاء، تترقب بلهفة أن يعود الغائب وتعود معه طمأنينة الحياة.
جربت كل السبل، اتصلت بكل من عرفت من الأهل والأصدقاء، وسألت جميع من لهم معرفة به، لكن دون جدوى. لم يبق أمامها سوى باب السماء بعدما سُدّت في وجهها كل الأبواب، حملت همّها إلى قريب عُرف بين الناس بالزهد والصلاح وخدمة الناس. جلس قبالتها، أصغى إلى حكايتها بوجه مطرق إلى الأرض، ثم مدّ لها ورقة قائلا: "ردديها بعد كل صلاة، ففي التوكل على الله فرج، ولعل الله يجمع شملكِ بمن تحبين".
وفي ليلتها تلك، فرشت سجادتها، صلّت لربها، بقي قلبها معلّقًا بالغيب، وشرعت تتلو بصوت خافت:
باسم الله بدأت، وباسم الله توكلت، وباسم الله استفتحت وهو خير الفاتحين، مبيد الجبابرة، قاهر الجن والإنس أجمعين، الملك الحق المبين، ذي الطول والجبروت، ذي العزة والرحمة والملكوت.عزمت عليكم يا معاشر الجن والإنس والشياطين والمتصورين في أشباح الصور، والمتعرضين إلى أصناف البشر، والطائرين في الهواء، والغواصين تحت أطباق الثرى، وسكان السحاب، وسكان الخراب، وسكان الأكام، وجميع من كان منكم من أصحاب السلاح، ومكان الرياح، عزمت عليكم يا من تتعرضون لبني آدم في ليلهم ونهارهم، في يقظتهم ومنامهم، أن تكفوا شركم عني وعن أولادي، وأن تحملوا سلامي وندائي إلى زوجي الغائب، بحق من استوى على العرش، واحتوى الملك، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. أجيبوا بحق ما تلوته عليكم واسمعوا وأطيعوا واجلبوا لي زوجي أحمد ابن زينب حمدي، بحق من ترعد الملائكة من هيبته، وتزهق أرواح الجن والشياطين من سخطه. العجل الساعة.
اللهم يا جامع الشمل بعد الشتات، ويا راد الغائب بعد طول الفراق، اجمعني بزوجي كما جمعت بين الأرواح في عالمك، وردّه إليّ ردًّا جميلاً، وافتح لنا من أبواب رزقك ما يغنينا عن سؤال أحد من خلقك.سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، تباركت وتعاليت، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا راد لما قضيت.
حين فرغت من تلاوتها، أحست بطمأنينة تسري في قلبها، كأن الكلمات نفسها حوّلت قلقها الطويل إلى يقين صامت بأن الغائب لا بد راجع، وأن البيت الموحش سيُضاء من جديد.
(2)
استيقظ أحمد قبل الفجر بساعة، على غير عادته، كأن أحدًا يهزه ويهمس في أذنه: قم فلبِّ النداء!
لم يقاوم، ارتدى ملابسه على عجل، حمل حقيبته، وكتب استقالته بخط مرتجف ثم غادر القرية السياحية في مرسى علم متجهًا إلى المطار. كان كل شيء ينقاد له على غير عادة: وجد مكانًا شاغرًا في الطائرة كأن القدر أزاح صاحبه جانبًا، وتجاوز الإجراءات بسهولة غريبة، حتى بدا له أن قوة خفية تمهّد له الطريق خطوة خطوة.
نسي راتبه الذي ينتظره، وتناسى غربته التي اعتادها، بل وأغفل نزوة قلبه الجديدة مع إحدى السائحات. لم يبق في داخله إلا صورة واحدة تملأ عينيه: وجه انشراح، جالسة بإسدالها الأخضر على سجادة الصلاة، تتلو دعاءها في خشوع!
وكلما طاف بخاطره طيف السائحة، برزت أمامه صورة زوجته، شفتاها تتحركان في ابتهال صادق، كأنها تحميه من السقوط في هوة بلا قرار.. كان يشعر في أعماقه أن كل خطوة تقربه أكثر من حضنٍ لم يعرف مثل دفأه منذ رحيله غير المدروس.
https://alalamalyoumnews.blogspot.com/2025/09/blog-post.html
ردحذف