التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفتونة: هل تلاشى الفتوة حقًا؟

 


(من عاشور الناجي إلى بلطجي الحارة.. سيرة قوةٍ لم تنتهِ)

عبد الرحمن هاشم

في الحارة المصرية القديمة، لم تكن الدولة وحدها صاحبة الكلمة العليا، بل برزت قوة أخرى تحكم وتسيطر وتُرهب وتُعطي الأمان: الفتوة.
هو بطلٌ شعبي عند البعض، وجلادٌ عند آخرين، بين الشهامة والبطش، بين حماية الضعفاء وفرض الإتاوات. ظاهرةٌ عاشت قرونًا، من الأسواق في العصر المملوكي، إلى العشوائيات الحديثة حيث تحول الفتوة إلى بلطجي، لتبقى الفكرة واحدة: حين تضعف الدولة يظهر من يملأ فراغها بالقوة.

وقد عرفت مصر عبر تاريخها الطويل أنماطًا مختلفة من السلطة الشعبية، من شيخ البلد إلى كبير العائلة، ومن الفتوة في الحارة إلى البلطجي في العشوائيات. لكن الفتوة ظل النموذج الأكثر رسوخًا في الذاكرة الشعبية، لأنه جمع بين البطولة والهيمنة في آن واحد.

"وما يدري خضر سليمان الناجي إلا وسماحة ينضم إلى عصابة الفللي رجلًا من رجاله. احتفل الفتوة بانضمام حفيد الناجي إلى أعوانه، وعدّه أكبر نصر له في حارته. أما الحرافيش فاعتبروا ذلك طورًا جديدًا من أطوار المأساة التي تطحنهم. وقيل -فيما قيل- إن الله قادر على أن يخلق أحيانًا من صلب الأبطال أوغادًا لا وزن لهم، وإن عاشور صاحب الحلم والنجاة والعدل الشامل ظاهرة خارقة لا تتكرّر".
نجيب محفوظ، الحرافيش

وفي موضع آخر من ملحمته يقول على لسان عنبة الفوّال صاحب البوظة وخليفة المرحوم سنقر الشمّام:

"ما أكثر الذين يسمّون بعاشور وشمس الدين في حارتنا! أجل، لم يبق من تراث الناجي الخالد إلا الأسماء. أما العهود والأفعال فتعيش في الخيال مع الأساطير والمعجزات المسربلة بالحسرات".

لم يكتب نجيب محفوظ ملحمته من فراغ، ولم يكن ظهور الفتوة في مجتمعنا حدثًا عابرًا لا يشير لفلسفة أو حاجة مجتمعية. إنه إعلان غير مكتوب أن الحارة تحتاج إلى النظام، وتشتاق إلى نظام يتسم بالقوة والعدل والرحمة والحب، وهو نظام لم يُعرف في التاريخ إلا مع الأنبياء والصديقين.


نشأة الفتونة وبداياتها

بدأت الأحياء الشعبية في القاهرة والجيزة وبعض مدن الدلتا تشهد ظهور شخصيات قوية بدنيًا ومهيبة الحضور، تتولى حماية الحارة أو فرض النفوذ عليها. كانت الفتونة خليطًا من الزعامة الشعبية وحماية المصالح مقابل إتاوات، وفي أحيان كثيرة امتزجت بالشهامة ومساعدة الضعفاء، فجمع الفتوة بين صورة الحامي وصورة المستغل، وفقًا لشخصيته وقيمه.

يعود ظهور الفتوة إلى العصر المملوكي، حيث اكتفى بحماية الأسواق وكان له تعاون محدود مع الدولة. وفي العصر العثماني ازدهرت الفتونة وسط ضعف الأمن، فظهر الفتوة أحيانًا بديلًا عن السلطة. وفي القرن التاسع عشر تضخم دور الفتوة في الحارات والقرى، وبدا أن هناك تنافسًا وصراعًا مع الحكومة. ومثّلت الفتوة في النصف الأول من القرن العشرين مزيجًا من البلطجة والحماية، وتم استيعاب بعض الفتوات في أجهزة الأمن. أما النصف الثاني من القرن فقد شهد انحسار الفتوة الشعبية وظهور البلطجي، بالتوازي مع سيطرة الشرطة وتوظيف بعض البلطجية.


العلاقة مع الحكومة ووزارة الداخلية

لم تكن العلاقة بين الفتوة والحكومة على وتيرة واحدة. أحيانًا اعتبرته الحكومة وسيطًا محليًا يضمن الأمن في الحارة ويوصل الرسائل ويحافظ على النظام، وأحيانًا رأته خطرًا على سلطتها فسعت للتخلص منه أو اعتقاله. في بعض الفترات، خاصة قبل توسع جهاز الشرطة، كانت وزارة الداخلية تستفيد من نفوذ الفتوات لضبط النظام، لكنها لم تكن تسمح بتمددهم أكثر من اللازم.


شيخ الحارة ودوره

كان شيخ الحارة شخصية رسمية تعترف بها الحكومة، بينما الفتوة شخصية شعبية تفرض وجودها بالقوة والهيبة. أحيانًا كان الاثنان في تحالف، وأحيانًا في صراع، خاصة إذا حاول أحدهما السيطرة الكاملة على أهل الحارة.


الفتوة في القرى وصعيد مصر

لم تقتصر الفتونة على أحياء القاهرة الشعبية، بل وُجدت في القرى وصعيد مصر ولكن بأشكال مختلفة. في الريف، كان الفتوة أقرب إلى العمدة القوي أو كبير العائلة الذي يفرض احترامه بالقوة. أما في الصعيد فقد ارتبطت الفتونة بالنخوة والثأر والعصبية القبلية، وأحيانًا بحماية المسافرين والأسواق.


كيف كان يُنصَّب الفتوة نفسه؟

غالبًا ما كانت الفتونة تأتي بالقوة الجسدية والانتصار على الفتوة السابق في مواجهة علنية أو خفية. وفي أحيان أخرى، يورّث الفتوة نفوذه لأحد أتباعه الأقوياء، لكن الكلمة الفصل كانت دائمًا لمن يستطيع فرض هيبته.


فتوات الإسكندرية

في أحياء الإسكندرية القديمة مثل بحري والمنشية وكوم الدكة، برزت أيضًا شخصيات الفتوة، خاصة في مناطق الميناء حيث تتداخل التجارة مع أعمال التهريب والنقل البحري. كان فتوة الميناء يتمتع بعلاقات مع التجار والصيادين، وأحيانًا مع العصابات الصغيرة، ويمارس نفوذه على الأرصفة والأسواق.


عصابة الفتوة ودورها

لم يكن الفتوة يعمل بمفرده؛ كان له أتباع يُعرفون بـ"الصبيان"، يساعدونه في فرض الإتاوات، وحفظ الأمن، ورد الحقوق مقابل أجر. كانت هذه العصابة هي ذراعه التنفيذية، وهم أيضًا مرشّحوه المستقبليون لخلافته.


هل كانت هناك فتوة امرأة؟

نعم، وإن كان نادرًا. التاريخ الشعبي يذكر شخصيات نسائية امتلكن القوة والنفوذ في الأسواق أو بين الباعة، لكنهن لم يحملن لقب الفتوة رسميًا. بعضهن كان يُلقب بـ"ست السوق"، ومارسن سلطة على الباعة والباعة الجائلين.


الفتونة في الأدب

في رواية الحرافيش لنجيب محفوظ، نجد انعكاسًا رمزيًا للفتوة، حيث تتحول الفتونة إلى صراع دائم على السلطة، وتكرار لدورة القوة والضعف عبر الأجيال. هذه الصورة، رغم مبالغاتها الأدبية، تعكس حقيقة أن الفتوة كان حاكمًا صغيرًا في دائرته.


الفتوة في السينما والدراما

لم تكتفِ السينما المصرية بتجسيد الفتوة، بل جعلته رمزًا حاضرًا في وعي الجمهور. ففي فيلم الفتوة (1957) جسّد فريد شوقي الصراع بين فتوة الأسواق والسلطة، بينما أضفت أفلام أخرى لزكي رستم ويوسف شعبان أبعادًا متباينة لصورة الفتوة بين الشهامة والبطش.

أما الدراما التلفزيونية فقد عمّقت هذه الصورة، وأبرزها رائعة أسامة أنور عكاشة ليالي الحلمية، حيث ظهر الفتوة كجزء من تحولات المجتمع وصراعاته الطبقية والسياسية، لا كفرد معزول في الحارة فقط. وهكذا تحولت شخصية الفتوة عبر الشاشة إلى رمز يتجاوز الواقع المحلي، ليعبّر عن صراع أوسع بين السلطة والناس، وبين الحلم بالعدل والخوف من القوة.

غير أن بعض الأعمال الحديثة تعكس صورة أقرب إلى البلطجة منها إلى الفتونة القديمة المقيدة بضوابط الشهامة والعرف، وهو ما يعكس تحوّل الرمز من نموذج شعبي له جذور أخلاقية إلى مجرد سلطة غاشمة في زمن مختلف.


النهاية الغالبة لكل فتوة

غالبًا ما كانت نهاية الفتوة إما القتل على يد منافس أقوى، أو السقوط بالمرض والعجز، أو السجن إذا قررت الحكومة إنهاء نفوذه. قلّة منهم ماتوا ميتة هادئة وسط أهلهم. أما النهاية الدرامية للفتوة فلم تكن بعيدة عن صورته في الأدب والسينما، حيث تنتهي دائمًا بمأساة تعكس حتمية سقوط القوة الفردية أمام الزمن أو الدولة.


رجال الشرطة ودور الفتوة

في فترات تاريخية معينة، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، لعب بعض أمناء الشرطة أو مخبري المباحث دور الفتوة في مناطقهم، ففرضوا الرهبة وأخذوا الإتاوات من الميسورين، وأحيانًا تلقوا أموالًا مقابل رد الحقوق.


الفتوة والحكومة: من منظور آخر

ما الفتوة إلا انعكاسًا مصغّرًا لفكرة "احتكار القوة"، وهو نموذج شعبي لغياب الدولة الحديثة. وهناك من يرى أن الحكومة نفسها، مقارنة بالفتوة، ليست إلا "فتوة عملاقًا" يفرض النظام على نطاق الدولة. فإذا ضعفت، جاء بديلها ليملأ الفراغ، مثلما يحل فتوة جديد محل القديم في الحارة.


بديل الفتوة حاليًا

في العصر الحديث، تراجعت ظاهرة الفتوة التقليدية لتحل محلها أشكال أخرى من السيطرة، مثل "بلطجي المنطقة" أو مجموعات الشباب المسلحين في بعض الأحياء العشوائية. لكن الجوهر لم يتغيّر كثيرًا: القوة تفرض احترامها حيث يغيب القانون أو يضعف.


خاتمة

وهكذا، من الحارة الضيقة في القاهرة القديمة إلى أرصفة الإسكندرية وأسواق الصعيد، ظل الفتوة رمزًا للقوة حين يبهت سلطان الدولة. عاش بين أسطورة الحامي وشبهة المستغل، بين البطولة والبطش، حتى صار حكاية تتناقلها الأجيال وتُدوَّن في صفحات الأدب. وفي النهاية، يسقط الفتوة كما يسقط غيره: قتيلًا في صراع، أو مريضًا منسيًا، أو أسيرًا في قبضة السلطة. لكن صورته لا تختفي، بل تعود في ملامح جديدة: ضابط متسلط، بلطجي حيّ، أو حتى حكومة عملاقة تمارس الفتونة باسم القانون.


ولعل ما نراه اليوم في مشهدنا العربي ليس إلا امتدادًا لتلك الظاهرة القديمة في ثوب سياسي دولي؛ إذ يتجسد نتنياهو في صورة فتوة معاصر، يتصرف كما لو أن المنطقة كلها "حارة" تحت سطوته، يلوّح بالقوة ويستند إلى سند خارجي بدلًا من شرعية أو عدل. غير أن التاريخ علّمنا أن فتوة الحارة مهما طغى وتمادى لا بد أن يلقى مصيره المحتوم، وأن زمن البلطجة، صغيرًا كان في زقاق أو كبيرًا في وطن، لا يدوم.


فهل تلاشى الفتوة حقًا، أم أنه لا يزال بيننا، يبدّل أقنعته بقدر ما يتبدل الزمان؟


المراجع

  • الجبرتي، عبد الرحمن. عجائب الآثار في التراجم والأخبار. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

  • محفوظ، نجيب. الحرافيش. القاهرة: دار الشروق.

  • عبد الرحمن، فهمي. الحياة الشعبية في القاهرة في القرن التاسع عشر. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة.

  • الرافعي، عبد الرحمن. عصر محمد علي. القاهرة: دار المعارف.

  • مقابلات شفهية مع سكان أحياء القاهرة والإسكندرية القديمة (أرشيف المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية).

  • سيد عويس. مذكرات في المجتمع المصري. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

  • محمود إسماعيل. الفكر الشعبي في مصر.

  • شمس الدين الكيلاني. الحارة المصرية: بنية ودلالة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر التقدير، بل تزرعه في الآخرين. هي لا تعمل كإدارية، بل كقائدة حقيقية، وكأنها تظن أ...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...

رسالة دكتوراة توصي بالتوطين المحلي لصناعة السيارات

حصل الباحث محمد جمال عبد الناصر؛ المدرس المساعد بقسم إدارة الأعمال، بكلية التجارة جامعة عين شمس على درجة دكتور الفلسفة في إدارة الأعمال؛ مع التوصية بتداول الرسالة مع الجامعات الأخرى، وذلك عن رسالته بعنوان "توسيط المسئولية الاجتماعية والتسويق الأخضر في العلاقة بين أخلاقيات الشركات المدركة والولاء للعلامة (دراسة ميدانية)" وتشكلت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبد القادر محمد، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة المنصورة وعميد كلية التجارة جامعة المنصورة الجديدة" رئيسًا "، والدكتورة جيهان عبد المنعم، أستاذ التسويق بكلية التجارة ، ومستشار نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة" مشرفًا"، والدكتورة عزة عبد القادر، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة عين شمس" عضوًا"، والدكتورة حنان حسين، مدرس إدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة عين شمس" مشرفًا مشاركًا". وأجرى الباحث دراسته بالتطبيق على المشتركين في مبادرة تحويل وإحلال المركبات للعمل بالطاقة النظيفة، موصيًا  بأهمية العمل على زيادة المكون المحلي في السيارات داخل مبادرة الإحلال؛ بما...