التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السرد الذاتي وأدب الاعتراف النسوي.. مقاربة نقدية لقصة "شهادة قبل أن أموت" للكاتب الصحفي عبد الرحمن هاشم

 


بقلم أ.د. عزة شبل محمد

أستاذة اللغويات بكلية اللغات الأجنبية في جامعة أوساكا باليابان

أستاذة اللغويات في كلية الآداب بجامعة القاهرة 

لكل عمل أدبي خصوصيته وتفرده على الرغم من خصوصية النوع، لذا، فعلى القارئ أن يحاول الكشف عن تلك الخصوصية، بإثارة العديد من التساؤلات. ماذا يريد الكاتب أن يقول؟ وما الذي تبوح به الأصوات المتعددة داخل العمل؟ وما مقدار ذلك البوح؟ وهل يصل البوح إلى تعرية الستر؟ وما نوعية الاعتراف؟ ولمن؟ وما الآثار الناجمة عنه على الفرد والمجتمع؟ تساؤلات كثيرة ومترابطة بعضها البعض نحاول الإجابة عنها من خلال مقاربة نقدية لواحدة من القصص التي يمكن إدراجها تحت هذا النوع من الكتابات السردية المسمَّى بـ "أدب الاعتراف"، وهي قصة "شهادة قبل أن أموت" للكاتب الصحفي "عبد الرحمن هاشم".

وقد جاء اختيار هذا النموذج السردي لعدة أسباب، منها ما يرجع إلى الإشكالية التي يثيرها العنوان الذي وردت فيه صراحة لفظة "شهادة"؛ مما يجعل القارئ أمام صعوبة التصنيف النوعي للعمل، بين "أدب الشهادات"، أو "أدب الاعتراف"، ومنها ما يعود إلى احتواء العمل على العديد من المفارقات السردية، التي كان في مقدمتها أن للقصة كاتب، على الرغم من أن القصة تسردها ذات نسوية، مما يضع القارئ أمام مراوغة مع منظور سردي مغاير، ويدخله في منطقة التخييل بقدر ما يدخله في منطقة الاعتراف.

تطرح قصة "شهادة قبل أن أموت" النقاش حول قضايا اجتماعية وثقافية وتربوية وسيكلوجية، محاولة إماطة اللثام عن مشكلات عميقة تنحر في جسد المجتمع، عبر سردية تندرج تحت ما يُعرف في النقد الحديث بـ "أدب الاعتراف"، أو "أدب الشهادات"، وعلى الرغم من الفروق الدقيقة بينهما في  البنية، والنوع، والأغراض التواصلية، فقد نجحت القصة أن تتماس مع "أدب الشهادات" بالتأكيد على وجود كلمة "شهادة"، وتكرار استخدامها في النصوص الموازية للعمل، فنجدها في عتبة النص الأولى، عنوان القصة "شهادة قبل أن أموت"، وفي المقطع الختامي بقول الساردة "هذه قصتي، وهذه شهادتي، وهذا قلبي، وهذا حسن ظني أقابل به الله."

تكشف القصة في دارة من دوائر الحكي عن مشكلة فتاة تربت مع ابن عمها الذي يكبرها بخمس سنوات في بيت واحد، فنشأ أولاد الأسرتين معًا، "ولك أن تتخيل العلاقة بين أسرتين يقطنان في دور واحد؛ الشقة أمام الشقة، ورب الأسرة الأولى شقيق لرب الأسرة الثانية، والأولاد يشتركون في اللعب والفسح والأكل والدروس وأحيانًا المبيت". وكلما كبرت الفتاة كلما زاد تعلقها بابن عمها، وزاد تعلقه به، لكن المشلكة التي واجهتهما هي رفض أم الفتاة لهذا الحب وهذا الزواج، معللة رفضها بأن عم الفتاة قد انخرط في العمل السياسي ضد الإنجليز، مما أدى إلى دخوله السجن، وأنها تخاف على ابنتها من المخاطر، بل ويجب عليها حماية أسرتها كلها؛ لذا فقد حاولت أن تتجنب التعامل مع أسرة العم، وقد وافق والد الفتاة على ذلك، فكان لا يقوم بزيارة بيت أخيه إلا في مناسبات قليلة، وكان موقفه "الحياد والتردد بين واجبات الأخوة ونصائح الزوجة".

وازدادت سلطة الأم في مرحلة المراهقة، عندما أقعدت ابنتها عن التعليم، مكتفية بالشهادة الابتدائية، وأتت لها بآلات حياكة وتطريز، لتمنعها من الخروج ورؤية ابن عمها. كما تجلت صور انعدام الحرية في عدم أخذ رأيها، عندما أراد صديق والدها مشاركتها في مشروع بتأجير شقة في نفس المنزل الذي يسكنون به بعد أن أعجب بمهارتها، فتمت الموافقة دون الرجوع إليها أو استشارتها. وكذلك عندما وافقوا على العريس المتقدم لخطبتها، وبدؤا في تجهيز شقة العرس دون أخذ رأيها.

فأصبحت الفتاة ضحية لهذا القمع، بدءًا من كبت حرية الرأي والتعبير، والحرمان من حقها في التعليم، وانتهاءً بسلب حقها في اختيار زوجها، وهو ما ولَّد لديها الشعور بالقهر قائلة: "أنا تحت سطوتهم، لا سند لي ولا حجة. لا تعليم يشفع لي، ولا استقلال أحتمي به. إنهم قادرون على محاصرتي بالضغط واللوم والتكرار... بل وربما على تزويجي قهرًا."

لقد أدى الشعور بالظلم إلى حدوث تغيرات في الشخصية على المستوى الشعوري، فمع استلاب الحريات يتحول المرء إلى أسير، وهو ما عبرت عنه الفتاة بقولها: "ولم أكن أعلم أنني، في تلك اللحظة، خُطبتُ — قهرًا — لرجلٍ لا يعرف قلبي اسمه... دخلتُ محلّ الصاغة كما تدخل أسيرةٌ إلى ساحة أسْر... يعبثون بي كما يشاؤون، كطفلةٍ في المهد لا تعرف الاعتراض ولا تستطيع سوى البكاء."

لقد أصبحت كل مظاهر الحريات معدومة، حرية البنت في التعليم، وحرية اختيار الزوج، وحرية الرأي. وقد ظلت هذه السلطة مستمرة مع كافة مراحل نمو الشخصية، وتجاوزت مساحة السلطة نطاق الأسرة، إلى نطاق المجتمع، فأحاطت الشخصية بسياج من الرهاب الاجتماعي يلازمها، الخوف من كلام الناس، والخوف من رد فعل أبنائها، إذا ما أعلنت زواجها من ابن عمها بعد موت زوجها. وهكذا تستمر السلطة وتستمد قوتها من الثقافة المجتمعية، فتخلق سياجًا لا يستطيع الضعيف الفكاك من براثنه. لقد حاول الكاتب أن يصور مدى سلطة الأسرة والمجتمع التي تسهم في بناء شخصيات هشة ضعيفة، تتخذ دور الضحية، وتستسلم لتلك الثقافة المجتمعية المغلوطة القائمة على القهر وممارسة السلطة، ليس بوصفها حالة فردية، وإنما باعتبارها مرضًا مستشريًّا، أو كائنًا أسطوريًّا تمتد أذرعه؛ فتفتك ببنية الأسرة والمجتمع.

لقد ظل الخوف من سلطة الأسرة، وسلطة المجتمع ملازمًا الشخصية قبل أن تموت، حتى نصل إلى المقطع الختامي مع الشهادة، وطلب المغفرة، والاعتراف. فهى لا تريد أن يعرف أحد سر زواجها الذي أخفته عن الناس، وعن أبنائها إلا بعد وفاتها، قائلة: "وكان حبنا خفيًا، وما أخفيناه لنيل شهوة نفس، بل اتقاءً لشرور الناس."هي لم تفعل شيئًا سوى أن تزوجت الرجل الذي أحبته طوال عمرها، وأنجبت منه طفلاً، لكن فلما بدا أن "الوقت قد حان للحبيبين أن يلتقيا في عش يجمعهما، كان المجتمع لهما بالمرصاد."، أو كما وصف الزوج، أن "الأوضاع التي لم ترحمنا يومًا". إن القصة تطرح للنقاش قضية مهمة تحتاج إلى الوقوف عليها، وتأملها، هي قضية الحقوق والحريات.

حرص الكاتب في سرد مركب على استخدام جمل قصيرة نسبيًّا، تنقل حركة السرد، بين الوصف والحوار، حاملة في ذات الوقت عمقًا سرديًّا وفكريًّا وفلسفيًّا، تجلت مظاهره في بعض السمات الأسلوبية، من مثل استخدام السرد التاريخي الموازي، وتعمية أسماء الشخصيات، والرمزية التاريخية، والمفارقات السردية، وتوظيف تيمة البطل المخلِّص، وتيمة الحلم، وتيمة الطيف، والنهاية المفتوحة.

استخدم الكاتب نوعًا متميزًا من أنواع السرود، وهو السرد المركب، حيث يسير الحكي في خطين متداخلين، الأول منهما هو الحكي الاجتماعي الذي يعالج فيه قضية استلاب حرية المرأة، بسبب سلطة الأم، وقمع المجتمع. والآخر هو الحكي التاريخي الذي اختار منه الكاتب ما يشير إلى استلاب الحريات على مستوى الوطن، معبرًا عن صورة أخرى من صور القمع والاستبداد عند وجود المستعمر؛ لذا فقد قام بتضفير التناص من خلال استدعاء فترة وقوع البلاد تحت الاستعمار الإنجليزي، فجاء الحكي مبنيًّا على علاقة المشابهة بين الخيطين؛ لرسم صورة كلية لمفهوم استلاب الحريات، مع براعة توظيف الصورة الذهنية التي ترمز فيها المرأة للوطن.

لقد استطاع الكاتب أن يوظف التناص التاريخي لفترة الاستعمار الإنجليزي على مصر،  مشيرًا إلى ممارسة الظلم، واستلاب الحريات السياسية، وعمليات السجن من خلال شخصية العم؛ ليكتمل مشهد قمع الحريات الذي صوره على المستوى الاجتماعي داخل نطاق الأسرة، وعلى المستوى الفكري داخل نطاق المجتمع، ليصبح أيضًا على المستوى السياسي، والوطن، معبرًا عن محاولة المستعمر  لقمع الحريات، وطمس الهوية.

لقد بنى الكاتب الإسقاط التاريخي والسرد الموازي على علاقة المشابهة بين صورة المحبوبة، وصورة الوطن، فكلاهما يعاني من سلطة القمع، وكلاهما أسير في يد الظلم. الفتاة تعاني من سلطة الأم، والوطن يعاني من سلطة الاحتلال الإنجليزي، وما خلفه من جهل، ألمح  الكاتب إلى إمكانية الخلاص منه بنشر العلم بقوله: "حرص ألا يمكث في العمارة إلا وقت الراحة والنوم، وبقية يومه بين طلاب الجيران وأبناء الحي الفقراء، يمنحهم دروسًا مجانية كأنما يرد دينًا واجب الأداء." لقد شغل الحبيب نفسه بالدراسة حتى أضناه التعب. تخرج بتقدير جيد جدًا، وعُيّن مدرسًا بالإسكندرية؛ المدينة التي لم يزل يغسلها المطر من خطاياها، وحيث يسابق أهلها الزمن ليصنعوا لأنفسهم مكانًا في وطنٍ جريح يضمد جراحه."

كما استطاع الكاتب التعبير عن الشعور الناجم عن سلطة القهر، الذي يصل إلى حد الإحساس بالموت، عندما أُجبرت الفتاة على الزواج من شخص لا يعرفه قلبُها، فاستدعى لذلك التناص التاريخي مع مشهد موت زعيم الأمة جمال عبد الناصر، بقولها: "كان الناس يحتفلون بي عروسًا، وفي الوقت نفسه شيّعوا زعيمًا إلى مثواه. 28 سبتمبر... يوم زفافي، ويوم رحيل عبد الناصر. وبين الزغاريد والموسيقى، كنت أودّع نفسي القديمة، وأستقبل حياةً لا تخصني."

        وفي موضع آخر يضفر الكاتب الحكي بالتناص التاريخي، كاشفًا عن نضال أبناء الوطن ضد سلطة الاستعمار، وقد وظَّف شخصية العم رمزًا للكفاح والنضال، عند مشاركته مع طلاب مدرسة المعلمين على كوبري عباس عام 1946م، وكانت مصر في هذه الفترة "محتلة تموج بمظاهرات رافضة للأوضاع الفاسدة التي أباحت للإنجليز انتهاك الوطن والعبث بمستقبله، محاولين الوصول إلى قصر عابدين، فانفتح الكوبري الحديد ببطء، وتحول إلى شطرين، وهوى الشباب إلى النيل عشرات بعد عشرات، نجا منهم من نجا ومات منهم من مات، واستمرَّ نضاله ضد الإنجليز في مدن القناة."

يضفِّر الكاتب جديلة السرد الرومانسي، بجديلة السرد التاريخي الذي يكشف من خلاله عن فترة تاريخية وأحداث مهمة أثرت في تغيير المجتمع، وانتقاله من العصر الملكي، وقت الاحتلال الإنجليزي على مصر إلى فترة حرب الاستنزاف، ثم الحكم الناصري، ثم وفاة الزعيم جمال عبد الناصر يوم زواجها. ربما يلفت الكاتب الانتباه من خلال تلك المزاوجة إلى علاقة التأثير والتأثر بين الفرد والمجتمع. فإذا كانت هوية الفرد هشة ضعيفة، فإن النتيجة الحتمية هي حدوث خلل في بنية المجتمع، وضعفه، وانهياره تحت سطوة المستعمر.

ومن اللافت للانتباه أن الكاتب قد لجأ إلى تعمية أسماء الشخصيات، فلم يذكر أي اسم من أسماء الشخصيات في العمل. لم يعرف القارئ اسم الأم ذات السلطة، أو اسم الأب الحائر بين سلطة الأم، وواجب الأخوة، أو اسم العم الذي أودع في السجن لاشتراكه في العمل السياسي، أو اسم صديقه  المخلص الذي ساعد ابنه في الجامعة، أو اسم ابن العم المحب، أو اسم الفتاة المحبوبة، أو اسم زوجها، أو أسماء أبنائها، أو اسم ابنة خالها التي ساعدتها، وسمحت لها بالزواج في بيتها.

فغالبًا ما يستخدم كتاب القصة هذه التقنية في الحكي؛ لأغراض عدة، منها إضفاء لمسة من التشويق والغموض على الحكي، أو بغرض التركيز على الفكرة ذاتها التي يقدمها العمل، أو للتعميم، حتى لا ترتبط الفكرة باسم معين في ذهن القارئ، وإنما يكون التعميم وسيلة لترك الباب مفتوحًا لإتاجة إمكانية أن يرى القارئ تلك الشخصيات في الواقع المعيش، أو أ، يستحضرها ذهنه، فتكون القصة أكثر تأثيرًا وإقناعًا. كل هذه الأسباب محتملة الوقوع داخل دائرة مقاصد الكاتب، والأغراض التواصلية مع القراء.

تحفل القصة بالعديد من المفارقات السردية التي تثير فضول القارئ، وتكسر لديه أفق التوقع. تمتد مساحات تلك المفارقات على منحنى السرد منذ بداية الحكي حتى مقطع النهاية، فنجد مفارقة الذات الكاتبة، ومفارقة السلطة الذكورية، ومفارقة مفهوم الستر، ومفارقة الصديق المساعد ومفارقة هجرة الزوج، ومفارقة المقطع الختامي.

تمثل مفارقة الذات الكاتبة أولى المفارقات التي يحفل بها العمل. فالقصة تحكي بضمير "الأنا الساردة" عن معاناة فتاة من سلطة الأم، وسلطة المجتمع، وتصور أحاسيسها بدقة وشفافية عالية، معبرةً عن أدق الجوانب الشعورية التي يمكن أن تنتاب شخصية المرأة مع تعدد السياقات الانفعالية التي ساهم في الكشف عنها توظيف المناجاة والبوح، وعلى الرغم من ذلك، فإن القارئ يُفاجَأ بأن صاحب القصة كاتب، وليست كاتبة؛ فيقع التلقي بين منطقتي السرد والتخييل.

تقدم القصة صورة مغايرة للنموذج السلطوي السائد، وهو النموذج الذكوري، فتستبدل به نموذج السلطة الأنثوية، الذي تمثله شخصية الأم صاحبة القرار في البيت، بينما الزوج تابع لها، فتمارس الأم قمع ابنتها، وسلب حريتها في التعبير عن رأيها في الزواج بمن تحب، كما تسلب حريتها في إكمال دراستها، وأخيرًا بإجبارها على الزواج من شخص آخر غير ابن عمها الذي أحبته منذ صغرها.

تمثل سلسلة المفارقات في العمل خيطًّا متصلاً يرتبط بالفكرة الأساسية للقصة، وهي كيف أن القمع والسلطة تنشئ شخصية ضعيفة هشة بلا هوية، وهو مما يؤثر سلبًا على هوية المجتمع، وانتشار الآفات به. ففي ظل ما عانته شخصية الفتاة من استلاب الحريات في إطار الأسرة والمجتمع، تولد لديها الشعور بالاغتراب، والخوف من مواجهة الناس. وعلى الرغم من الزواج بابن عمها بعد موت زوجها، فإنها لم تستطع الإعلان عن هذا الزواج أمام أبنائها، أو أمام الناس، وكأن مفهوم الزواج قد تحول من الستر إلى الفضيحة؛ لذا فقد حرصت على إخفائه، ثم ازدادت المشكلة عمقًا مع حملها، وإنجابها طفلاً، وهنا ينتقل بنا السرد إلى نوع آخر من المفارقات، وهو مفارقة الصديق المساعد. 

تظهر تيمة الصديق المساعد في الحكي عند تعرض شخصية البطل لإحدى المشكلات والمخاطر، فهي من التيمات الأساسية لوظائف الحكي عند "بروب" في الأدب الشعبي. وقد انتقلت هذه التيمة من الحكي الشعبي إلى الحكي الفردي، وأعاد توظيفها الكتاب لأغراض شتي. لعبت ابنة الخال  دور الصديق المساعد في التستر على سرية زواجهما، ولقائهماعندها في شقتها، ثم "مكثت عندها تسعة أشهر كاملة، تحت ذريعة تمريضها." وعندما تمنت الزوجة أن يرجع زوجها على أول طائرة، بعدما أخبرته بمولودها لكنه لم يفعل، فشاورت ابنة خالها، فقالت بهدوء: "كما تعلمين، أنا وحيدة وغنية ولا أنجب... أعتبر أن الله أراد لهذا الطفل أن يأتينا جميعًا، لا لكِ وحدك. هو هديتي أيضًا. سنقول للناس إنني تبنيته، وأنتِ "الخالة الحبيبة" التي لا تفارقه... وبهذا، يغمرنا الستر، ويبقى ابنك في حضنك."

لقد انقلب دور الصديق من المساعدة إلى مزيد من الإغراق والتعقيد، بواسطة الحل المراوغ الذي قدمته ابنة الخال، فقد حوَّلت من خلاله دور الأم إلى دور الخالة، واختصت لنفسها دور المتبنية، فاكتسبت حقًا لم يكن لها، تحت دعوى الستر أمام الناس، وارتضا به كلاهما بديلاً عن إعلان الزواج. ومرة أخرى يترك الكاتب السرد مراوغًا أمام القارئ، ليطرح العديد من التساؤلات حول مفهوم التبني، ومفهوم الستر، وموقف الابن من أمه بعدما يعلم بحقيقة الأمر بعد موتها، وموقف أبنائها لزوجها الأول من شقيقهم الذين لم يعرفوا عنه شيئًا، وموقفهم منها، وقد أخفت عليهم أمر زواجها وإنجابها لأكثر من ثلاثين عامًا.  

وطوال الحكي، يبني الكاتب قوة تبادل الحب بين الفتاة وابن عمها، واستمراره على الرغم من مرور ثلاثين عامًا، وبعد أن أصبح لكل منهما حياته وأسرته، وأبناؤه، وعندما سنحت الفرصة لهما بعد موت زوجها، تقدم ابن عمها للزواج بها، وحدث الزواج، وغمرتهما سعادة كبيرة، لكن الساردة تُُفاجئ القارئ بسفر الحبيب بعد زواجه إلى أحد أولاده بالخارج، وأنه لم يكن مجرد سفر، بل كان هجرة ربما بلا عودة، فقد "جاءته فرصة للهجرة إلى أستراليا، حيث يعمل ابنه بالسلك الدبلوماسي." والمفارقة الأخرى أنها لم تطلب منه أن يبقى، رغم أنها كانت تستطيع، لكنها "لمحت الرغبة والسرور في عينيه فسَكتُّ." وهو بدوره لم يعد حتى بعد أن علم بأن زوجته حامل، وستضع مولودهما السعيد. لقد تنصل الزوج الهارب من مسئوليته، وواجباته تجاه زوجته، وتجاه ابنه، وتجاه المجتمع.

 إن هذا الخضوع والخنوع لرغبة الآخر الضمنية  لهو من أعمق الدلائل على هشاشة الشخصية، وضعفها الناجم عن معاناتها تحت وطأة القهر والقمع لفترات طويلة، فقد تعودت على الاستسلام أمام الآخرين، حتى صار  الخنوع سمة من سمات الشخصية المقهورة، وأصبح أقصى ما تطمح إليه بينها وبين نفسها، هو مجرد التمني، بقولها: "تمنيتُ أن ينزل على أول طائرة، لكنه لم يفعل." ليلازمها الشعور بالحسرة وخيبة الأمل، متخذةً لنفسها دور الضحية، والبطولة الزائفة.

لقد اتخذت الشخصية لنفسها دور البطولة، فهي لم تضن على الرجل الذي اختاروه لها بحقوقه، ولم تتمرّد على قدرٍ فُرض عليها، لكنها كانت تعيش مع طيف رجلٍ آخر... رجلٍ لم ترتضه أمها، بينما ارتضاه قلبها.هكذا عبرت الشخصية عن علاقتها بزوجها، وعلاقتها بطيف حبيبها، محاولةً إلقاء ذلك كله على القدر الذي فُرض عليها. وقد اجتهد الكاتب في إخراج حبها لابن عمها، بعدما تزوجت بآخر في صورة الحب المثالي، أو الحب العذري العفيف؛ ومن ثم راح الكاتب يتناص مع تيمة "الطيف" التي اتخذها شعراء الغزل وسيلة للقاء المحبوب في قصائدهم، في ظل استحالة اللقاء، لوجود العاذل والرقيب. 

وقد استمرت الزوجة على وفائها لطيف ابن عمها، بعدما سمحت لها الظروف بعد موت زوجها بالزواج منه، وعندما أخبرته بأنهما سوف يرزقان بطفل، وصف الزوج ذلك بأنه معجزة، بينما وصفته هي بأنه أثر الحب والوفاء. ولربما يكون منظورها للوفاء المتأثر بالصورة الذهنية التي رسمتها الدراما والأعمال الأدبية مختلفًا عن منظور بعض القراء الذين قد لا يجدون فيه أي نوع من الوفاء لزوجة تعيش في كنف زوجها وتحت رعايته، وفي الوقت نفسه تفكر بقلبها وعقلها في حبيب آخر.    

تستمر الساردة في التأكيد على منظور الحب المثالي، وتضحيتها من أجل استمراره، حتى بعدما تركها الزوج وهاجر إلى بلد آخر، ولم يعد، بقولها:" لم تصبني غيرة ولا وسوسة. بل حباني الله بقلب كبير، يعرف الفرق بين التملك والمحبة، بين الاحتياج والرضا، بين الأذى والوفاء. ولا أقول ضاع العمر يا ابن عمي، لأني لا أضيِّعُ حبي. حبي لك حيّ، لا تهزمه الخطوب."

لقد استطاع الكاتب ببراعة شديدة أن يوظف المصاحبات السردية لسلطة القمع في الحكي، مستخدمًا تيمة "الحلم"، وتيمة "الطيف"، وتيمة "التبرير"، وتيمة "الانكسار والاستسلام"، وتيمة "فقدان الأمان"، وتيمة "فقد الهوية"، كما جعل النهاية مفتوحة، تثير ذهن القارئ نحو القضايا المطروحة، والرؤي المقدمة، والتفكير في مصير الابن بعدما يعرف أن من كان يناديها بخالته، هي أمه، وبعدما يكتشف أن له أشقاء لم يعرفهم طوال ثلاثين عامًا من عمره، وما سيكون موقفهم تجاهه، وتجاه أمهم.

لقد كانت القصة ثرية ببنيتها السردية، وبما تثيره من قضايا تربوية، تكشف عن علاقة الوالدين بالأبناء، وأثرها على الصحة النفسية، والفكرية، وبنية المجتمع، كما جاءت القصة محمَّلة بحمولات رمزية وفلسفية في سردها الرومانسي الذي يُبرز مفهوم "البطل المخلِّص" بوصفه موازيًا سرديًّا لمفهوم "الحريات".، كما يربط مفهوم "الاعتراف" بمفهوم "التوبة والتطهير".

وفي النهاية، تعدُّ هذه القصة عملاً فريدًا متميزًا استطاع أن يجذب انتباه القارئ إلى العديد من الأفكار والقضايا النفسية والاجتماعية والفكرية، بتعدد أبعادها التخييلية، والتاريخية، والرمزية، والفلسفية في قالب حكائي يجمع بين أدب الاعتراف النسوي، وأدب الشهادات.

 خالص تهنئتي للكاتب المبدع عبد الرحمن هاشم على صدور هذا العمل المتميز، وتمنياتي للقارئ الكريم بالاستمتاع به في ضوء ما يطرحه من قضايا، وما يشتمل عليه من تشويق وإثارة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بالصور.. اليوم التعريفي لصيدلة "مصر للعلوم والتكنولوجيا"

  عقدت كلية الصيدلة والتصنيع الدوائي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا فعاليات (اليوم التعريفي للطلاب الجدد orientation day) تحت رعاية  خالد الطوخي رئيس مجلس الأمناء والدكتور نهاد المحبوب القائم بعمل رئيس الجامعة والدكتورة رحاب عبدالمنعم عميد كلية العلوم الصيدلية والتصنيع الدوائي. وشهدت الفعاليات حضور  الدكتورة مها عيسي وكيل الكلية لشئون الدراسات العليا والبحوث والدكتورة ولاء حمادة وكيلة الكلية لشئون التعليم والطلاب ومدير وحدة ضمان الجودة بالكلية؛ وحضور رؤساء الأقسام بالكلية وأعضاء من هيئة التدريس والهيئة المعاونة، والدكتور الحسيني الجندي رئيس قسم العقاقير ومقرر لجنة رعاية الطلاب، والدكتورة ندى لبيب؛ عميد المكتبات ومستشار رئيس مجلس الأمناء. وقام أعضاء الاتحاد العام لطلاب كلية العلوم الصيدلانية والتصنيع الدوائي بعرض الأنشطة المختلفة التي يقوم بها الاتحاد واللجان المختلفة، فضلا عن  تكريم الأوائل من الطلاب بكل دفعة بلائحة pharm D ولائحة pharm D clinical بجائزة شهادة  الدكتورة سعاد كفافي للتفوق العلمي، وأخيرا تكريم اللجنة المنظمة لفعاليات الاحتفالية. يذكر أن الفعاليات ...

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر التقدير، بل تزرعه في الآخرين. هي لا تعمل كإدارية، بل كقائدة حقيقية، وكأنها تظن أ...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...