التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أمام القبة الخضراء


 

(قصة رمزية)

بقلم: عبد الرحمن هاشم

ثمة لحظات لا تغيّر ما حولنا، بل تغيّرنا نحن من الداخل. لحظة أمام القبة الخضراء كانت لي كهبة سماوية عدّلت بصيرتي، فأبصرت ما كنت عنه غافلًا.

برزت لي من الغيب حقائق كنت أمرّ عليها في المصحف الشريف دون تأمل. قضيت زمنًا طويلًا مقتنعًا بأفكار أثور عليها الآن، بعد هذا العمر المديد. 

في شبابي كان الحماس يملأني، وكانت أسرتي كلها تحاول صرفي عن فورتي، لكن عبثًا؛ فقد كنت في سن يستهين بالمغامرة، ولو بالموت.

رأيت الخطوب تصيب رفاقي، فلم أتزحزح. ثم جاءت أيام لاحقة أخجل فيها من نفسي؛ إذ خضت في أعراض وتجرأت على قامات وتسرعت في إصدار الأحكام وكأنني إله! وكان ابني ـ الإمام بالأزهر ـ يهمس لي:

"كانت يا أبتي فتنة عمَّتْ، ولم ينجُ منها إلا أهل التواضع والأوبة."

أدهشني أنني لم أشغل عقلي في كثير من المسائل والقضايا، كنت أهرب من الفهم. وسألت نفسي عن سر الغبش الذي يحيط بالشباب: إنه الحماس بلا حكمة، والإخلاص بلا فهم.

ومنذ وقعت بلادنا فريسة للاحتلال، أخذ كل شيء يتغير. ثم اكتشفت أنّ الخلل في الفهم أمرٌ يُراد، وأنّ المحتل لا يحارب التطرف والعنف بقدر ما يغذيه. في تلك الأيام كنا نأكل ونمرح ونركب الخيلاء، وننتفخ بالأفكار الجديدة حتى غمرتنا ثلاثة أوهام كبرى:

  1. أن المشكلة في الاستبداد لا في المحتل الغاصب.

  2. أن أقصر طريق للتغيير هو إزاحة الحكام والجلوس في أماكنهم.

  3. أن مزج الحركة الدعوية بأهداف سياسية يخدم المجتمع.

لكنَّ القدَرَ أدار وجهه، فتجهمت لنا الدنيا، وسدّ المستقبل، وراجعنا أنفسنا، فإذا بها تحتكم للأهواء أكثر من العقل والعلم.

تذكرت نصيحة جاري الراحل حين اتهمته بالحكم بغير ما أنزل الله، فقال لي بحنان:

"يا بني، ادرس الشريعة من ينابيعها على يد العلماء المتمرسين، ستعرف حينها أنك أخطأت خطأً لا يُغتفر في حقي."

ثم ساق لي بيتين من الشعر الجميل:

لطّف حديثكَ فالنفوس مريضةٌ *** ومن الكلام مُحنِّنٌ ومُجنِّنٌ

كم هادىءٍ بالعنفِ ثارَ وآبدٍ *** كالوحشِ روّضهُ الدعاءُ اللينُ 

كنت أقتبس نصوصًا حسب مزاجي، أصنع منها ما يخدم هواي بلا ضوابط ولا إجماع. رأيت الناس جميعًا حكامًا ومحكومين عصاة، ولم أنظر إلى نفسي بل انشغلت بتغيير غيري، أستنزف عمري في أعمالٍ حركية لا تبرح مكانها.

صمتُّ طويلًا، حتى نبهني سؤال ابني:

"متى حلَّت بك هذه الروح الجديدة يا أبتي؟"

تفكرت قليلًا، ثم أجبته:

"أمام القبة الخضراء في المدينة المنورة."


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، [انظر الرابط: https://alalamalyoumnews.blogspot.com/2024/02/blog-post_67.html ] أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...

رسالة دكتوراة توصي بالتوطين المحلي لصناعة السيارات

حصل الباحث محمد جمال عبد الناصر؛ المدرس المساعد بقسم إدارة الأعمال، بكلية التجارة جامعة عين شمس على درجة دكتور الفلسفة في إدارة الأعمال؛ مع التوصية بتداول الرسالة مع الجامعات الأخرى، وذلك عن رسالته بعنوان "توسيط المسئولية الاجتماعية والتسويق الأخضر في العلاقة بين أخلاقيات الشركات المدركة والولاء للعلامة (دراسة ميدانية)" وتشكلت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبد القادر محمد، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة المنصورة وعميد كلية التجارة جامعة المنصورة الجديدة" رئيسًا "، والدكتورة جيهان عبد المنعم، أستاذ التسويق بكلية التجارة ، ومستشار نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة" مشرفًا"، والدكتورة عزة عبد القادر، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة عين شمس" عضوًا"، والدكتورة حنان حسين، مدرس إدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة عين شمس" مشرفًا مشاركًا". وأجرى الباحث دراسته بالتطبيق على المشتركين في مبادرة تحويل وإحلال المركبات للعمل بالطاقة النظيفة، موصيًا  بأهمية العمل على زيادة المكون المحلي في السيارات داخل مبادرة الإحلال؛ بما...