التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأمية المنهجية



د. عمار علي حسن

من يُطالع الأطروحات العلمية من ماجستير ودكتوراه فى حقل الإنسانيات فى جامعات عربية عدّة سيكتشف للوهلة الأولى أن أغلبها يفتقد الدقّة المنهجيّة والأصالة العلمية والقُدرة على إضافة شىء لافت أو إبداع جديد، بينما الجامعات ماضية فى منح الدرجات وفق آلية بيروقراطية، نالها الفساد والعطب الذى ضرب جَنَبَات مؤسّسات وهيئات ومسارات أخرى فى مجتمعاتنا، لنجد عشرات الآلاف ممن يحملون درجة مُدرّس أو أستاذ مُساعد أو أستاذ، لا يرقى ما لديهم من إمكانية التفكير العلمى والضبط المنهجى والعمق المعرفى إلى ما يحملونه من درجات، ويعتقد أغلبهم واهماً أنه يستحقّها، بل يتيه بها كثيراً على مَن هم دون ذلك فى المجتمع العام.
إن وظائف البحث العلمى تتدرّج صعوداً من «جمع المتفرّق» إلى «إبداع الجديد» أو «اختراع المعدوم» ومروراً بـ«تكميل الناقص» و«تفصيل المُجمل» و«تهذيب المُطوّل» و«ترتيب المُبعثَر» و«تعيين المُبهَم» أو «تجلية الغامض» و«تبيين الخاطئ» و«نقد السائد»، لكن أغلب الرسائل الجامعية تدور فى الحدود الدنيا لتلك الوظائف وخاصة «جمع المُتفرّق»، بل نجد كثيراً من الباحثين قد انحدر بهذه الوظيفة وصاروا لا شغل لهم ولا انشغال سوى التقاط ما يخدم موضوعات أطروحتهم من الكتب والرسائل الجامعية والدراسات المنشورة فى دوريّات ومقالات الصحف، بما يمكّنهم فى نهاية الأمر من استيفاء الشكل أو المظهر العام الذى يعتقد به الرائى أو المُطالع أنه أمام أعمال علمية منهجية، تنطلق من أسئلة مطروحة أو افتراضات محدّدة، وتتبع منهجاً أو اقتراباً علمياً فى الفحص والدرس، وتسير على خطة مُحكمة للإجابة عن التساؤلات وإثبات الفروض أو دَحضِها.
لكن هذا الشكل يبقى بلا مضمون لأن ما سيطر على ذهنية الباحثين هنا ليس الوصول إلى جديد، أو حتى نقد المُتداوَل والمُتَاح، إنما قصّ جُمَل أو عبارات، وأحياناً صفحات كاملة لآخرين ثم إعادة لصقها فى صفحات جديدة، فتبدو فى حقيقتها أقرب لنبات انغرس فى وسط بيئى غير مُلائِم لنموّه واستوائه على سوقه، فأصبح مصفرّاً ولا يُرجى منه ثَمَر. والطامّة الكبرى فى هذا أن كثيراً من الكتب أو الرسائل المنقول عنها والمنسوب إليها، تكون قد أعدّت بالطريقة نفسها، ومن ثم تبدو العملية التعليمية أقرب إلى لبنات تتابع فى كومات مبعثرة، ورغم ضخامتها التى تملأ العيون، فإنها ليست أبنية مجهّزة للسكن يمكن الاستفادة منها والاعتماد عليها، بل هى عَثَرَات فى طريقنا تمنعنا من التقدّم إلى الأمام.
والأخطر من كل هذا أن هناك جيلاً ممن يحملون لقب «أستاذ» ويشرفون على الأطروحات الجامعية هم أنفسهم أبناء هذا المسار المعوجّ، وتنطبق عليهم دوماً الحكمة السابغة التى تقول: «فاقد الشىء لا يُعطيه»، ومن ثم فإنه لا طائل من انتظار أن يخرج من تحت أيدى هؤلاء باحثون يرتقون بوظائف البحث العلمى سواء فى مجال الإنسانيات أو الطبيعيات، لاسيما أن بعضهم اعتاد إخضاع البحث لميوله السياسية أو الأيديولوجية وتلك آفة كبرى.
وهذه الحال يمكن أن يُطلق عليها باطمئنان «الأميّة المنهجية»، وهى فى نظرى أرذل أنواع الأميّات التى انشغلنا بها طويلا، مثل الأميّة الأبجدية والثقافية والسياسية والإلكترونية.. إلخ. فالعلم بمدخله وليس بموضوعه ومن ثم فإن امتلاك القدرة على التفكير السليم هى الأساس، ليس لمن يعملون فى السلك الجامعى أو مراكز البحوث فحسب بل لسائر مواطنى أى دولة. فمثل هذه الفضيلة تمكّنهم من الارتقاء بحيواتهم الخاصّة ومجتمعاتهم حين يفهمون الأمور على وجهها السليم، ويمتلكون منعة حيال أى أساليب للتلاعب بعقولهم، ويتفاعلون سريعاً وبإيجابية مع كل إشارات أو تصرّفات أو تدابير تقوم بها الإدارة، ويكون من شأنها تحقيق المصلحة العامة. وعلى المِنوال ذاته يمتلكون ردّ فعل سريعا وإيجابيا حيال أى تصرّفات تسير فى الاتجاه المُعاكس، فيمنعون الضرر عن مجتمعاتهم التى لا سبيل إلى ارتقائها سوى بالعلم.
والأميّة المنهجية تلك لا علاقة لها بمستوى تحصيل المعلومات، الذى بالغ البعض فى تقدير أهميته إلى درجة أنه قد جعل منه الثقافة نفسها، وصار المثقّف هو الذى قطف من كل بستان زهرة، أو الذى إن سألته عن معلومة ما فى أى تخصّص أو مجال وجدت الإجابة عنده أو طرفاً منها أو ما يشبهها على الأقل. وفى هذا تمجيد للذاكرة مع أنها على أهميتها أقل المَلَكَات العقلية البشرية مُقارنة بالقدرة على الفَهم والربط والإدراك والابتكار. وفى هذا أيضاً سير عكس اتجاه الزمن، ففى أيام المكتبات الإلكترونية ومحرّكات البحث على الشبكة العنكبوتية التى تأتى بالمعلومات من كل مكان وبكل اللغات، يكون من العَبَث أن يجعل شخص همّه هو حفظ معلومات متناثرة، ليستعرض بها أمام الناس وليس امتلاك قدرة على بناء الحجّة وصناعة مسار برهنة متماسك وتكوين موقف من الذات والمجتمع والآخر والكون.
والأميّة المنهجية ليست قرينة الأميّة الأبجديّة فى كل الأحوال، فهناك من الزرَّاع والصنَّاع والتجَّار البسطاء من رُزِقت عقولهم بتفكير منطقى يعينهم على حل مشكلاتهم الحياتية البسيطة والمُعقّدة. وهناك من بين الدارسين والمتعلّمين مَن يتخبطون فى عشوائية التفكير ويعانون من تشوّش الذهن، وتستعصى عليهم أدنى المُشكلات التى تعترض طرقهم. ولهذا نجد فلاحاً ناجحاً فى مهنته ومهمّته مع أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، بينما نجد باحثاً أو أستاذاً عاجزاً عن أداء ما هو منوط به على أى وجه صائب، لأنه يفتقد مكنة التفكير المنهجى التى تعينه على فهم الأمور فهماً سليماً.
والأميّة المنهجية لا تُمحى بتكثيف دراسة مناهج البحث واقتراباته، فهذا مجرّد عامل مُساعد، لكنها تختفى حين يتعلّم الشخص كيف يستعمل أدوات التفكير العلمى فى التعامل مع مشكلاته البحثية والحياتية، على حد سواء، منطلقاً من أن العلم يتّسم بالنسبية ويبدأ بالشك وينفر من الإطلاقية والوثوقية ويلهث دوماً وراء التحقّق من المعلومات، وهو أيضاً يتعامل مع المعرفة بوصفها ذات طابع تراكمى ويتّسم بالموضوعية التى تخفّف من تأثير الذاتى أو تُحيّده، وينزع إلى وضع كل شىء موضع المُساءلة. وتعلُّم هذا لا يكون فقط بعرض شروط التفكير العلمى وحفظها إنما بالتدرّب عليها والتفاعل الخلاّق بين أجيال الباحثين، والطموح الدائم إلى بلوغ آفاق جديدة بتجاوز السائد والمُتاح وفضح المسكوت عنه أو كشفه.
والأميّة المنهجية لا تنتهى بين عشيّة وضُحاها، ولا يجب أن تشغل القائمين على العملية التعليمية حيال طلاب الدراسات العُليا فقط، بل إن الانتهاء منها هو عملية طويلة وشاقّة وصارِمة، تبدأ منذ التحاق التلميذ بالمدرسة وتكبُر معه كلما أوغل راحلاً فى مدارج العلم ومراتبه، فإن وصل إلى المرحلة التى عليه أن يشتغل فيها بالبحث العلمى يكون قد تمكّن من أدواته، وبالتالى يُضيف باستمرار إلى ما هو قائم، ومن هنا تتحوّل الأطروحات العلمية إلى لَبنَات بعضها فوق بعض فيعلو البنيان، أو خطوات تتلاحق فى اتجاه الهدف.
والأميّة المنهجية لا يجب أن تُقابَل بكل هذه الاستهانة لحساب تعليم عابر يمدّ حياة العرب كل سنة بملايين الخريجين من الجامعات والمدارس الفنية من دون أن يضمن أن كل هؤلاء قد امتلكوا بعد سيرهم كل هذه السنين فى مساقات مدرسية وجامعية، منهجاً يعينهم على تدبير أمورهم فى العمل والبيت والشارع، إن اكتفوا بالدرجات التعليمية الأوليّة، ويمدّهم بكل أسباب النجاعة والنباهة والنجابة إن واصلوا دراساتهم العليا فى مختلف التخصّصات والحقول العلمية.
إن الحال المُزرية التى عليها أغلب الأطروحات العلمية فى مجال الإنسانيات والتى تغصّ بها رفوف المكتبات الجامعية لن تتبدّل، وينقضى سوؤها، إلا إذا أعيد النظر فى العملية التعليمية برمّتها فانتقلت من حرص مريض على تخريج حَفَظَة متعالمين بأى شكل وأى صيغة، إلى إصرار قوى وعفىّ على صناعة جيل جديد من العُلماء الحقيقيين، الذين تبدأ بهم رحلة مُضادّة للقضاء على الأميّة المنهجية فى كلّياتنا الجامعية ومدارسنا، ومن دون ذلك سيستمر ما نحن فيه من خسران مُبين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، [انظر الرابط: https://alalamalyoumnews.blogspot.com/2024/02/blog-post_67.html ] أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...

رسالة دكتوراة توصي بالتوطين المحلي لصناعة السيارات

حصل الباحث محمد جمال عبد الناصر؛ المدرس المساعد بقسم إدارة الأعمال، بكلية التجارة جامعة عين شمس على درجة دكتور الفلسفة في إدارة الأعمال؛ مع التوصية بتداول الرسالة مع الجامعات الأخرى، وذلك عن رسالته بعنوان "توسيط المسئولية الاجتماعية والتسويق الأخضر في العلاقة بين أخلاقيات الشركات المدركة والولاء للعلامة (دراسة ميدانية)" وتشكلت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبد القادر محمد، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة المنصورة وعميد كلية التجارة جامعة المنصورة الجديدة" رئيسًا "، والدكتورة جيهان عبد المنعم، أستاذ التسويق بكلية التجارة ، ومستشار نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة" مشرفًا"، والدكتورة عزة عبد القادر، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة عين شمس" عضوًا"، والدكتورة حنان حسين، مدرس إدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة عين شمس" مشرفًا مشاركًا". وأجرى الباحث دراسته بالتطبيق على المشتركين في مبادرة تحويل وإحلال المركبات للعمل بالطاقة النظيفة، موصيًا  بأهمية العمل على زيادة المكون المحلي في السيارات داخل مبادرة الإحلال؛ بما...