بقلم/ د. نجلاء الورداني
منذ منتصف القرن الماضي، ارتبط اسم إذاعة البرنامج العام بذاكرة المصريين والعرب، بوصفها إحدى أعرق وأوسع المحطات الإذاعية انتشارًا. فمنذ انطلاقها عام 1953، وهي تؤدي دورًا وطنيًا وثقافيًا لا يقل أهمية عن دور الصحافة أو التلفزيون، لتصبح رمزًا للإعلام الرصين وصوتًا يرافق المصريين في تفاصيل حياتهم اليومية.
البداية والتأسيس
يُعتبر عام 1947 محطة فاصلة في تاريخ الإذاعة المصرية، إذ آلت إدارتها بالكامل إلى الحكومة بعد انتهاء التعاقد مع شركة ماركوني البريطانية. ومن هنا بدأت ملامح الإذاعة الوطنية المستقلة التي تعبر عن صوت المصريين، وتخدم قضاياهم السياسية والاجتماعية والثقافية.
وخلال الفترة من 1947 إلى 1953 شهدت الإذاعة المصرية مرحلة تأسيس حقيقية، تم فيها وضع اللبنات الأولى لشبكات البث الوطنية، وتدريب الكوادر الإذاعية المصرية، والتوسع في ساعات الإرسال والمحتوى.
وفي عام 1953، بعد قيام ثورة يوليو مباشرة، انطلقت إذاعة البرنامج العام بوصفها الإذاعة الرئيسية للدولة المصرية. وقد جاء تأسيسها ليعبر عن روح تلك المرحلة التاريخية، حيث احتاجت مصر إلى صوت جامع يخاطب الشعب، وينشر الوعي، ويعزز الانتماء الوطني. وهكذا أصبح البرنامج العام الواجهة الأساسية للإذاعة المصرية، وصوتها الأشهر عبر عقود طويلة.
نبض الثورة والحرب
منذ اللحظة الأولى، ارتبط البرنامج العام بالأحداث المصيرية. ففي ثورة يوليو 1952، استخدم الضباط الأحرار ميكروفون الإذاعة لإعلان التغيير. وفي حرب أكتوبر 1973، كانت الأغاني الوطنية والبرامج التعبوية تُبث عبر أثيرها لترفع الروح المعنوية للشعب والجيش.
صوت كل بيت
البرنامج العام كان بحق إذاعة الأسرة المصرية. من نشرات الأخبار السياسية، إلى البرامج التثقيفية، وصولًا إلى المسلسلات الإذاعية التي جمعت العائلات مساءً، صَنعت الإذاعة ذاكرة سمعية للأمة.
أبرز برامجها
- كلمتين وبس: للكاتب أحمد بهجت وأداء فؤاد المهندس، برنامج قصير لكنه عميق في نقده الاجتماعي.
- على الناصية: مع الإذاعية الكبيرة آمال فهمي، التي فتحت هواء الإذاعة لمكالمات الجمهور، وجعلت الميكروفون همزة وصل بين المواطنين والمسؤولين.
- غواص في بحر النغم: برنامج موسيقي سلط الضوء على روائع الألحان والموسيقى الشرقية.
- أمسية ثقافية: برنامج فكري راقٍ استضاف كبار الأدباء والمثقفين.
- ألف ليلة وليلة: عمل إذاعي درامي ضخم بصوت كبار الفنانين.
مذيع صنع تاريخ
- صفية المهندس: أول رئيسة لإذاعة البرنامج العام، ورمز المرأة في الإعلام المصري.
- جلال معوض: صاحب الصوت الرصين الذي ارتبطت به نشرات الأخبار والمناسبات الكبرى.
- آمال فهمي: أيقونة البرامج الحوارية الجماهيرية في مصر والعالم العربي.
- أبلة فضيلة: التي شكلت وجدان الأطفال المصريين بحكاياتها اليومية.
مدرسة حضارية
لم يقتصر البرنامج العام على البث الإعلامي، بل كان مدرسة حضارية. فقد قاد حملات للتوعية الصحية ومحو الأمية، واحتفى بالتراث الموسيقي، وأتاح للأدباء والفنانين أن يصلوا إلى جمهور واسع في الريف والحضر. لقد كان بحق منصة للتنوير، توازن بين الأصالة والمعاصرة.
تلاقي الماضي بالحاضر
ورغم تغير المشهد الإعلامي مع الفضائيات والإنترنت، لا تزال إذاعة البرنامج العام تحافظ على جمهورها. فالبعض يستمع إليها بدافع الحنين، والبعض الآخر لثقته في مصداقيتها. كما تعمل الإذاعة على تطوير برامجها لمواكبة العصر، مع الحفاظ على هويتها الأصيلة.
إذاعة البرنامج العام ليست مجرد محطة إذاعية، بل ذاكرة وطنية وثقافية امتدت على مدار سبعين عامًا. صوتها رافق الثورة، والحروب، والتحولات الاجتماعية، وبصماتها لا تزال حاضرة في وجدان المصريين. إنها شهادة حية على أن إعلام هادف ظل مؤثرًا رغم تغير الوسائط.
تعليقات
إرسال تعليق