بقلم/ د. نجلاء الورداني
في كل عام، ومع صباح أول يوم دراسي، تقف عند شرفة بيتها وتنظر إلى الشارع المزدحم بالأطفال يحملون حقائبهم الجديدة، تتدفق ضحكاتهم البريئة مع أصوات الأمهات والآباء الذين يرافقونهم. تتعلق عيناها بكل مشهد صغير؛ يدٌ صغيرة متشبثة بذراع أمها، ابتسامة بريئة تختفي خلف حقيبة أكبر من الجسد النحيل، نظرات التوتر والفرح الممتزج بالرهبة. لحظات كهذه، بسيطة في ظاهرها، تتحول عندها إلى خنجر يطرق قلبها بحدة.
لقد مرت أعوام طويلة وهي تعيش في دائرة الصمت، لا أطفال يملؤون بيتها، ولا أصوات صغيرة توقظها صباحًا، ولا واجبات مدرسية تملأ الطاولة في المساء. الناس من حولها يرونها وكأنها في نعمة، يهمسون بأنها "محسودة" لأنها لم تُثقل بمسؤوليات التربية ومصاريف المدارس. لكنهم لا يعرفون أن ما يصفونه بالحسد ليس إلا فراغًا يمزق روحها كل يوم، وأن هذا الغياب ليس راحة بل وجعًا صامتًا يتجدد كلما رأت طفلاً يضحك أو أمًّا تضم صغيرها.
أشد ما يثقل قلبها هو ذلك الحلم المؤجل، حلم الأمومة الذي تحمله معها منذ كانت طفلة. كانت تتخيل طفلها يركض في غرف البيت، تتصور كيف سترتّب حقيبته المدرسية بعناية، وترافقه في صباح بارد إلى مدرسته الأولى. لكن السنوات مرت، وكلما حاولت أن تُخفي خيبتها بابتسامة صامتة، ازداد الوجع رسوخًا في أعماقها.
هي لا تغار من الأطفال، بل تحبهم حبًا فطريًا، لكن كل نظرة من شرفتها تذكرها أنها بقيت على الهامش، متفرجة على حياة لم تُكتب لها. ذلك الوجع لا يظهر على ملامحها كثيرًا، لكنها تحمله كصخرة في صدرها. أحيانًا تتمنى لو أن أحدًا يفهم صمتها، يفهم أن الحزن الذي يسكنها ليس حسدًا ولا جفاءً، بل وجع امرأة قُسِم قلبها نصفين: نصف يحلم، ونصف يتألم.
كل عام يتكرر المشهد ذاته: أطفال يتجهون إلى مدارسهم، وأم تتألم من كونها بلا طفل. وبينما يغلق الشارع أبوابه خلف ضجيج الصغار، تعود هي إلى غرفتها بصمت، تحمل معها إحساسًا بأن الفرحة تسكن كل البيوت إلا بيتها، وأن الفراغ في صدرها أكبر من أن يُقال أو يُخفى.
تعليقات
إرسال تعليق