التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الدكتور علي مصطفى مشرفة رائد من رواد النهضة العلمية في مصر (الحلقة الأولى)


د. وليد الإمام مبارك  

مركز دراسات التراث العلمي جامعة القاهرة      

بمناسبة الاحتفال بمئوية كلية العلوم – جامعة القاهرة، التي تمثل حلقة مركزية في مسيرة العلم والمعرفة في مصر، نستحضر تاريخًا مجيدًا ورسالًة متجددة في خدمة الوطن والإنسان.

يسرنا أن نعلن عن انطلاق سلسلة مقالات علمية وثقافية نسلط فيها الضوء على تاريخ هذه المؤسسة العريقة ودورها الحيوي في بناء النهضة العلمية في مصر. فمنذ نشأتها قبل قرن من الزمان، تواصل كلية العلوم أداء رسالتها كمنارة للفكر والبحث العلمي، ومركزًا لإعداد أجيال متعاقبة من العلماء والمفكرين الذين أسهموا بإبداعاتهم وجهودهم في تقدم العلوم على المستوى الوطني والإقليمي.

لقد شكلت كلية العلوم بجامعة القاهرة مركزًا رائدًا لإعداد أجيال متميزة من الباحثين والعلماء في كافة التخصصات العلمية، وساهمت في تأسيس قاعدة علمية صلبة دعمت تطور مصر العلمي والحضاري. وقد كانت منارة لنخبة العلماء الذين تركوا بصماتهم المجيدة في مجالات الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، والعلوم الطبيعية، وبرز من بينهم شخصية لامعة ومتميزة مثل الدكتور علي مصطفى مشرفة، الذي يجسد المثال الحقيقي للعالم الموسوعي والملهم.

يُعد مشرفة نموذجًا فريدًا للعالم الشامل الذي اتصف بعلمه الموسوعي وتعدّد مواهبه؛ فهو باحث حذق، مؤرخ واعٍ، محقق مدقق، أديب ناقد، وموسيقي بارع. تميز شغفه بالتراث العربي الإسلامي، وتألق في إخراج وتحقيق كتب التراث العلمي، ومن أبرز إنجازاته تحقيقه لكتاب "الجبر والمقابلة" للخوارزمي، حيث قدم من خلاله دراسة معمقة حول أهم الإسهامات التي قدمها التراث العلمي العربي.

وُلد علي مصطفى مشرفة في 11 يوليو 1898 بمحافظة دمياط، وتلقى تعليمه الأول في المنزل على يد والدته، ثم أتم دراسة المراحل الابتدائية والثانوية بمدارس محلية، حيث أظهر تفوقًا واضحًا في الرياضيات والفيزياء منذ نعومة أظافره. تبلورت موهبة مشرفة العلمية خلال دراسته الثانوية، مما أهّله للفوز ببعثة دراسية إلى بريطانيا لمواصلة تعليمه العالي.

التحق مشرفة بجامعة نوتنغهام في إنجلترا، حيث تميز بحصوله على شهادة البكالوريوس في الرياضيات خلال فترة قياسية بلغت ثلاث سنوات فقط. ثم واصل رحلته العلمية في جامعة لندن، ونال درجة الدكتوراه في فلسفة العلم تحت إشراف العالم الفيزيائي البارز تشارلز توماس ويلسون.

عاد مشرفة إلى مصر عام 1925، وباشر حياته الأكاديمية في جامعة القاهرة كأستاذ مشارك في الرياضيات التطبيقية بكلية العلوم. تدرج في المناصب الأكاديمية والإدارية مبرزًا قدراته القيادية، حتى أصبح أول عميد مصري لكلية العلوم عام 1936، وظل في هذا المنصب حتى وفاته.

لم يكن مشرفة أستاذًا جامعيًا فحسب، بل كان وطنياً تبنّى الربط بين العلم والحياة القومية، مؤمنًا بأن النهضة العلمية هي الأساس الحقيقي لبناء مصر الحديثة. نشر حوالي 24 بحثًا تناولت موضوعات متقدمة في ميكانيكا الكم، النظرية النسبية، والإشعاع، وكان من العلماء القلائل الذين ناقشوا نظرية آينشتاين للنسبية بشكل علمي رصين، وقدم إسهامات رئيسية في نظرية الإشعاع والسرعة.

علاوة على ذلك، لعب مشرفة دورًا بارزًا في نشر الثقافة العلمية ضمن المجتمع المصري، حيث نظم "مهرجان العلم" عام 1939 الذي كان معرضًا علميًا ساهم في تقريب العلوم للناس، وأسّس قسم الترجمة العلمية بكلية العلوم لتوفير العلوم باللغة العربية. كما حرص على تأليف كتب مبسطة تهدف للتثقيف العلمي مثل "نحن والعلم" و"مطالعات علمية".

كان مشرفة أيضًا مهتمًا بعلم تراث العلماء العرب والمسلمين، حيث دعا إلى الاعتزاز بالتراث العلمي العربي الإسلامي، معتبراً أنه حجر أساس دفع النهضة الأوروبية الحديثة. ورأى أن اللغة العربية أداة أساسية لبناء الهوية العلمية والثقافية ووضعها في خدمة العلم والتقدم.

عرف مشرفة بشجاعته العلمية وتفانيه في خدمة وطنه وأمته، ولم يقتصر جهده على إنجازاته الفردية، بل سعى إلى بناء منظومة علمية متكاملة عبر دعم ورعاية الشباب من الطلاب والباحثين. وقد أثمرت جهوده في نشأة جيل من العلماء الذين واصلوا النهضة العلمية ليس فقط في مصر بل في العالم العربي بأسره.

توفي الدكتور علي مصطفى مشرفة في 16 يناير 1950 إثر أزمة قلبية، وشيّعته مصر جنازة مهيبة، ونعاه كبار العلماء والمفكرون، من بينهم ألبرت آينشتاين الذي وصفه بـ«العبقري الذي ما زال حيًا في أبحاثه». ولا يزال اسمه رمزًا ينبض في ذاكرة النهضة العلمية المصرية، حيث كرّم بإطلاق اسمه على مؤسسات وجوائز علمية، تأكيدًا لدوره الفريد في ربط العلم بالهوية الوطنية والتطور الحضاري.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، [انظر الرابط: https://alalamalyoumnews.blogspot.com/2024/02/blog-post_67.html ] أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...

رسالة دكتوراة توصي بالتوطين المحلي لصناعة السيارات

حصل الباحث محمد جمال عبد الناصر؛ المدرس المساعد بقسم إدارة الأعمال، بكلية التجارة جامعة عين شمس على درجة دكتور الفلسفة في إدارة الأعمال؛ مع التوصية بتداول الرسالة مع الجامعات الأخرى، وذلك عن رسالته بعنوان "توسيط المسئولية الاجتماعية والتسويق الأخضر في العلاقة بين أخلاقيات الشركات المدركة والولاء للعلامة (دراسة ميدانية)" وتشكلت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبد القادر محمد، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة المنصورة وعميد كلية التجارة جامعة المنصورة الجديدة" رئيسًا "، والدكتورة جيهان عبد المنعم، أستاذ التسويق بكلية التجارة ، ومستشار نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة" مشرفًا"، والدكتورة عزة عبد القادر، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة عين شمس" عضوًا"، والدكتورة حنان حسين، مدرس إدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة عين شمس" مشرفًا مشاركًا". وأجرى الباحث دراسته بالتطبيق على المشتركين في مبادرة تحويل وإحلال المركبات للعمل بالطاقة النظيفة، موصيًا  بأهمية العمل على زيادة المكون المحلي في السيارات داخل مبادرة الإحلال؛ بما...