التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صلاة على ماء النهر


 

قصة قصيرة

بقلم/ عبد الرحمن هاشم

في فجرٍ غائمٍ من نهايات نوفمبر 1980، ابتلع الضباب الطريق، فانقلبت سيارة المعلم ساعي في مياه الترعة، فمات غريقًا. تناقل الناس الخبر، ورأى بعضهم أنه شهيد، فالغريق عندهم شهيد، وزادوا في تمجيده بما عُرف عنه من إصلاحٍ بين المتخاصمين وتجواله الدائم بين القرى كتاجرٍ للمواشي.

لكنّ الأقدار لم تكن تنظر إليه بعين الناس.
ففي أعماق سيرته ظلّ سرّ أسود مطمورًا: جريمة ارتكبها في شبابه، حين اغتصب فتاة يتيمة، فأنجبت منه بنتًا لا يعرفها أحد. جاءته الأم وابنتها بعد سنوات، يطلبن مأوى ورزقًا، فأدخلهما داره بحجة العمل، وأعطاهما غرفة بجوار الحظيرة. لكنهما عاشتا بين مطرقة الحاجة وسندان بطشه؛ يستدعيهما متى شاء، ملوّحًا بالطرد والجوع، حتى استُعبدتا تحت قسوة لا يراها سواه.

وحين ضاقت الأرض بالبنت، لجأت إلى درويش يسكن كوخًا على شط الترعة؛ الدرويش كأنما انبثق من صحائف الغيب، يشرق وجهه بأنوار الخلوة، وتنفذ عيناه ببصيرةٍ تستشفّ ما وراء الحجب.

هناك، بين خشوعه وصمته، قصّت البنت حكايتها. فارتجف قلبه، ثم نهض قبل انتصاف الليل، وأقام صلاته على ضفاف الماء.

لم تكن صلاته صلاة عابرة، بل كانت أشبه بطقسٍ كونيّ، كأن الملائكة تردّد خلفه. قرأ الفاتحة وسورة الفيل أربعين مرة، يكرّرها في القيام والركوع والسجود، حتى غدا صوته امتدادًا لصرخة المظلومين عبر الأزمان. وحين سلّم، رفع يديه إلى السماء وقال:

"يا من تُحكِم قبضتك على الأرواح والدهور، يا من تُمهِل ولا تُهمِل، يا من تُسقط الطغاة في لحظة لا تخطر ببالهم… يا من قلت وقولك حق {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}

 اللهم خذ "ساعي" أخذ عزيزٍ مقتدر، واجعل موته آيةً بين الناس."

ثم كتب في ورقة: "البنت وأمها مظلومتان، يا رب فانتصر"، وألقاها في النهر. كان المشهد أقرب إلى وحيٍ مرسَل، كأن الماء نفسه صار رسولًا يحمل الشكوى إلى الغيب.

وفي الفجر، لم تمهل العدالة السماوية المعلم ساعي، فإذا بالضباب ينسج له كمينًا، والماء يستدرجه إلى قاعه. غرق ولم يُنتشَل إلا جثة بلا روح.  لم يعد في القرية من يذكر سوى حكاية موته الغريب، وأما سرّ حياته فقد بُعث للعلن بقدر الله.

غدت حكاية موته كأنها صفحة من كتاب القضاء الأعلى. أمّا الدرويش، فاختفى بعد ذلك كما جاء، تاركًا في النفوس يقينًا بأن العدالة قد تنتظر، لكنها لا تموت.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، [انظر الرابط: https://alalamalyoumnews.blogspot.com/2024/02/blog-post_67.html ] أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...

رسالة دكتوراة توصي بالتوطين المحلي لصناعة السيارات

حصل الباحث محمد جمال عبد الناصر؛ المدرس المساعد بقسم إدارة الأعمال، بكلية التجارة جامعة عين شمس على درجة دكتور الفلسفة في إدارة الأعمال؛ مع التوصية بتداول الرسالة مع الجامعات الأخرى، وذلك عن رسالته بعنوان "توسيط المسئولية الاجتماعية والتسويق الأخضر في العلاقة بين أخلاقيات الشركات المدركة والولاء للعلامة (دراسة ميدانية)" وتشكلت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبد القادر محمد، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة المنصورة وعميد كلية التجارة جامعة المنصورة الجديدة" رئيسًا "، والدكتورة جيهان عبد المنعم، أستاذ التسويق بكلية التجارة ، ومستشار نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة" مشرفًا"، والدكتورة عزة عبد القادر، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة عين شمس" عضوًا"، والدكتورة حنان حسين، مدرس إدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة عين شمس" مشرفًا مشاركًا". وأجرى الباحث دراسته بالتطبيق على المشتركين في مبادرة تحويل وإحلال المركبات للعمل بالطاقة النظيفة، موصيًا  بأهمية العمل على زيادة المكون المحلي في السيارات داخل مبادرة الإحلال؛ بما...