بقلم الناقدة الأديبة/ أ.د. عزة شبل محمد
أستاذة اللغويات بكلية الآداب في جامعة القاهرة
وأستاذة اللغويات بكلية اللغات والترجمة في جامعة أوساكا باليابان
لم
أكن أعلم أني سأراها مرة أخرى، ويخفق قلبي لها بهذه السرعة، في نفس المكان، تجلس
على قارعة الطريق تستند بائسة على جذع شجرة كبيرة. لم يلفت انتباهي جمالها، بقدر
ما انجذبت نحو ما يصدره صدرها من أنين وعذابات، فاندفعت نحوها دون أن أدري؛ فإذا
بها من هؤلاء الفاتنات الذين جرى عليهم الزمن. عيون واسعة محدِّقة ومندهِشة، مظهرُها
متسخ، وشعرُها طويل مُنسدِل يحكي قصة الثراء الذي كانت تنعم به في الماضي قبل أن
تصبح مشرَّدة، لكن صحتها تبدو جيدة.
تعودتُ
أن أسير في هذا الطريق كل مساء، بعد عودتي من العمل، على الرغم من أنه طويل ومظلم.
أميل للوحدة، ولا أحب الضوضاء. وقبل أن أصل، سبقني إليها ثلاثة من الفتيان يركبون
سيارة سوداء، فتسمرت قدماي في باب الفضول، لأرى ماذا سيحدث، هل ستستجيب هذه
المشردة لأهوائهم، أم أن حياءها سيمنعُها؟ لم ينزل أحدُهم من تلك السيارة السوداء،
بل نزلوا جميعهم مرة واحدة، مما أربكها، وأربكني معها، فرأيتها تسير وتجري مسرعة
دون تردد، ودون أن تنظر وراءها، حتى توارت عن الأنظار، وتركتنا جميعا في حالة
دهشة.
تناسيت
الأمر برمته. مضى أسبوع، سافرت فيه إلى بلدي؛ لأرى زوجتي وابني الوحيد الذي أصبح
الآن في السنة النهائية بالجامعة، كل إجازة أحرص على التقاط بعض الصور معه، وأحتفظ
بها في صندوق الذكريات بغرفتي؛ لتؤنسني في غربتي، وتذكِّرني بملامحه التي صارت أكثر
صرامة بمرور الوقت.
في
اليوم التالي، وأنا عائد من عملي، في نفس الموعد تقريبًا، أسير في الشارع المظلم
الطويل، فإذا بي أري تلك الفاتنة جالسة في نفس المكان، على قارعة الطريق الذي لا
يمر به أحد سواي، تتلفتْ يمينًا ويسارًا، تبحث نظراتها عن حنين مفقود. لا أدري
لماذا لا أراها صباحًا! لماذا تظهر فقط في المساء، وتختفي طوال النهار؟ هل هي
هاربة من خطر ما؟ أبٍ قاس، أو زوجة أبٍ تقهرها، أو زوجٍ يضربها. لا أدري! ربما
جذبني نحوها أنني وحيد مثلها، حياتي محطَّمة، أكره الضوء، وأحنُّ إلى الظلام.
شابة
في العقد الثاني من عمرها. دفعني جمالها أن أفكر في أن أصطحبها؛ لتعيش معي، لكني
تراجعت عن هذه الفكرة، عندما تذكرت زوجتي، فماذا سأقول لها؟ بعد أن رفضتُ أن تأتي
معي؛ بحجة ترشيد النفقات. وفجأة قفزت إلى ذهني فكرة لإنقاذها؛ بأن أصطحبها إلى
إحدى الدور المخصصَّة للرعاية، لكني تراجعت عن تلك الفكرة أيضًا، عندما تذكرت ما
قد تعانيه، وأنها ستفقد حريتها إلى الأبد.
آه،
من عذابات التفكير، كاد عقلي أن يتوقف، لا أستطيع مساعدتها، لا أستطيع حتى
الاقتراب منها، سترحل، وتتوارى خلف الأشجار كعادتها. لكن لا بأس سأحاول، سأقترب
منها، وأرى ماذا ستفعل، فإن استجابت، فأنا الفائز، وإن خافت مني، وهربتْ، سأعاود
المحاولة كل يوم حتى تستسلم. قرار صائب يرضي نفسي الوحيدة. سأجلب لها طوقًا غاليًا
تزينُ به رقبتها، وأحضرُ لها وجبةَ طعامٍ شهية، و.......
وبينما
أنا واقف أفكر في كل الطرق التي تجعلني أتقرب إليها؛ لأظفر بها، إذا بها تقفز بخفة
ورشاقة من بين الأسوار الضيقة للنافذة، إلى غرفة المنزل على قارعة الطريق، بعد أن رأت
صاحبتَها تحضرُ الطعام، وتضعُ لها الماء في الطبق المجاور؛ لتأكل منه عندما تعودُ
متى تشاءُ.
تعليقات
إرسال تعليق