بقلم/ د. نجلاء الورداني
شهد الخطاب السياسي الأمريكي في العقود الأخيرة تداخلاً متزايدًا بين الدين والسياسة، لا سيما في ما يتعلق بالشرق الأوسط. وفي هذا السياق، يمثل خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نموذجًا دالًا على هذا التداخل، إذ أظهر ميلًا واضحًا لتوظيف الرموز الدينية الكبرى في بناء سردية سياسية تخدم مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن أبرز هذه الرموز ما يُعرف بـ«الفكر الإبراهيمي»، الذي يُطرح بوصفه مشروعًا حضاريًا يوحِّد الأديان السماوية الثلاثة تحت مظلة سلام وتعايش ظاهري، بينما يخفي في جوهره رؤية هيمنية جديدة لإعادة تشكيل العلاقة بين الدين والسياسة في المنطقة.
الخلفية الفكرية للفكر الإبراهيمي
الفكر الإبراهيمي، أو ما يُعرف بـ«الديانة الإبراهيمية»، هو مفهوم سياسي–ديني ظهر بقوة في العقدين الأخيرين، يقوم على فكرة أن الديانات الثلاث (اليهودية، المسيحية، والإسلام) تنحدر من جذر واحد هو إبراهيم عليه السلام. ويُقدَّم هذا الفكر باعتباره وسيلة لتجاوز الصراعات الدينية وتعزيز الحوار والسلام. غير أن كثيرًا من الباحثين يرون فيه مشروعًا لإضعاف الخصوصيات العقائدية للأديان، وتذويب الفوارق الجوهرية بينها لصالح صياغة هوية دينية–عالمية تُدار من الغرب، وتخدم التوجهات السياسية للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
الخطاب الترامبي وتوظيف الرموز الدينية
منذ توليه الرئاسة، استخدم ترامب الخطاب الديني بوصفه أداة سياسية، سواء في الداخل الأمريكي لاستمالة التيارات الإنجيلية، أو في الخارج لدعم الكيان الصهيوني. وقد بلغت هذه الرمزية ذروتها في ما سُمّي بـ«اتفاقات إبراهيم» (2020)، التي وُقعت بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وجرى تسويقها باعتبارها "سلامًا إبراهيميًا جديدًا".
في خطابه الأخير، أعاد ترامب استحضار هذه الرمزية، مشيرًا إلى "نجاح اتفاقات إبراهيم" و"ضرورة توسيعها لتشمل دولًا أخرى". ورغم أن حديثه اتخذ طابعًا دبلوماسيًا، فإن توظيفه لهذا المفهوم يعكس استمرار الرهان الأمريكي على فكرة "الإبراهيمية" كغطاء رمزي لتطبيع العلاقات العربية–الإسرائيلية، وتثبيت دور واشنطن كراعٍ أوحد للسلام في الشرق الأوسط.
البعد الأيديولوجي في الترويج للإبراهيمية
إن استدعاء الفكر الإبراهيمي في الخطاب السياسي لا يقتصر على البعد الديني، بل يتجاوز ذلك إلى تأسيس رؤية أيديولوجية جديدة للعلاقات الدولية في الشرق الأوسط. فالمفهوم يحمل في طياته محاولة لإعادة صياغة الهوية الثقافية والسياسية للدول العربية، عبر تسويق "سلام روحي" يوازي "السلام السياسي"، ويبرر الترتيبات الإقليمية الجديدة.
وعليه، فإن استخدام ترامب لهذا الرمز لا يمكن فهمه إلا في إطار مشروع أوسع يسعى إلى تطبيع فكري وثقافي يسبق التطبيع السياسي، ويعيد هيكلة الوعي الجمعي العربي والإسلامي تحت مظلة "الإبراهيمية".
نهاية؛ يمكن القول إن الخطاب الترامبي يواصل الاستثمار في الرمز الديني "الإبراهيمي" باعتباره أداة ناعمة لإعادة هندسة الشرق الأوسط. فرغم أن خطاباته تُغلَّف بمفردات السلام والتعايش، إلا أن جوهرها يعكس مشروعًا سياسيًا لإعادة ترتيب موازين القوة في المنطقة، وتثبيت القيادة الأمريكية–الإسرائيلية لها. ومن ثمّ، فإن تحليل الخطاب الإبراهيمي في سياق ترامب ليس مجرد قراءة لغوية أو دينية، بل هو تفكيك لرؤية سياسية تستخدم الدين لبناء شرعية جديدة للهيمنة.
تعليقات
إرسال تعليق