بقلم/ د. نجلاء الورداني
في الماضي، كان الشهيد رمزًا بعيدًا. كنا نسمع اسمه في نشرة الأخبار، أو نقرأ عنه في بيانٍ مقتضب، ثم نغلق التلفاز ونكمل حياتنا. لم نكن نعرف ملامحه، ولا نسمع صوته، ولا نرى ضحكته. كانت الشهادة مفهومًا عامًا، نُجِلّه ونحترمه، لكنه كان محاطًا بهالةٍ من البُعد والرمزية، لا من المعرفة والتجربة.
أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء.
بفضل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد الشهيد رقمًا في خبرٍ عابر، بل أصبح إنسانًا نعرفه ونتعلّق به. أصبح وجهه مألوفًا في شاشاتنا، وصوته حاضرًا في مقاطع قصيرة تُعيدنا إلى تفاصيل حياته، قبل أن يتحوّل إلى خبر استشهادٍ مؤلم.
لقد صارت الشهادة الآن حكايةً تُروى بالصوت والصورة، لا مجرّد سطر في بيان.
نعرف الصحفي أنس الشريف، الذي ظلّ يوثّق القصف والدمار حتى اللحظة الأخيرة، وهو يحتمي بالكاميرا ليحكي للعالم ما يحدث على الأرض. ونعرف صالح الجعفراوي، صديقه ورفيق دربه، الذي صار رمزًا للبسمة الفلسطينية المقاومة، ذلك الشاب الذي تحدّى الموت بالضحكة، فبقي حيًّا في وجدان الملايين بعد أن رحل.
ونعرف الطفل الذي حمل أخاه الصغير في شنطة على ظهره، مشهدٌ واحد تختصر فيه الإنسانية كل ما يمكن أن يُقال عن الفقد والخوف والنجاة في آنٍ واحد.
ونعرف الأب الذي جمع بقايا أطفاله في أكياسٍ صغيرة بعدما حوّلت الغارة منزله إلى رماد، ونعرف الأم التي فقدت تسعة من أبنائها وما زالت واقفة، تنظر إلى السماء بعينين فيهما من الصبر ما يعجز عن وصفه الكلام.
هذه القصص لم تكن ممكنة في زمنٍ مضى.
كانت الحكاية تُروى بلسان المراسل، لا بلسان الدم والدمع. أما اليوم، فقد فتحت الميديا نافذة واسعة على الوجع الإنساني، وجعلت من كل شهيد صوتًا وصورة وذاكرة جماعية حيّة.
لم نعد نرى الموت من بعيد، بل أصبحنا نشعر به يمرّ أمامنا في كل لحظة، نتابع تفاصيله، ونعيش وجعه كما لو أنه وقع داخل بيتنا.
وهنا يكمن التغيير العميق:
صرنا لا نحزن على الشهيد كـ"رمز"، بل كـ"إنسان".
نحزن لأننا عرفنا مَن هو، وكيف كان يعيش، ولمن كان يكتب أو يغني أو يصوّر. نحزن لأن الشهادة لم تعد فكرة مجردة، بل ملامح حيّة انطفأت أمام أعيننا.
لقد أعادت وسائل التواصل الاجتماعي صياغة علاقتنا بالشهادة.
حوّلتها من مفهوم سياسي أو ديني إلى تجربة إنسانية خالصة تمسّ كل قلب يرى ويسمع.
فالشهيد اليوم ليس فقط من رحل، بل من ترك وراءه قصة كاملة ترويها الصور والمقاطع والذكريات.
منحنا الإعلام فرصة أن نعرفهم عن قرب، أن نرى وجوههم المبتسمة، وأيديهم التي كانت تُسعف أو تُصوّر أو تُطعم أو تُغنّي.
ربما لهذا السبب نحزن اليوم أكثر من أي وقت مضى.
لأننا لم نعد نرى الشهيد كبطل بعيد، بل كصديق نعرفه، كابنٍ فقدناه، كإنسانٍ يشبهنا.
الميديا لم تكتفِ بنقل الخبر، بل كسرت المسافة بين المتفرّج والمشهد، فجعلتنا شركاء في الفقد والوجع.
صارت فلسطين أقرب إلى قلوبنا من أي وقت مضى،
وصار الشهيد حاضرًا في وعينا وذاكرتنا،
لا كخبرٍ يُنسى، بل كوجهٍ لا يُمحى.
إن الصورة التي تبكينا اليوم ليست مجرد صورة؛
إنها مرآة لإنسانيتنا.
وحين نحزن على الشهيد، فنحن في الحقيقة نحزن على العالم الذي سمح بأن يُقتل كل هذا الجمال أمام عيوننا.
ففلسطين اليوم ليست جغرافيا، بل قضية ضميرٍ عالمي تذكّرنا في كل يوم أن الحرية لا تموت، وأن الشهادة ليست نهاية، بل بداية الوعي الإنساني الحقيقي.
تعليقات
إرسال تعليق