قصة بقلم/ عبد الرحمن هاشم
قام خطيبًا في الجماهير عقب غارةٍ صدّعت القلوب قبل البيوت، واستشهد فيها الصغار قبل الكبار، والنساء قبل الرجال.
وقف بينهم شامخًا، صوته ينساب كبلسمٍ على الجراح، يهدّئ من روعهم، ويشدّ على أيديهم، ويوصيهم بالثبات قائلاً:
«لِمَ تحصرون معنى النصر في صورٍ بعينها لا تعرفون غيرها؟ ألا فاعلموا أن للنصر وجوهًا شتّى، وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند أولي النظرة القصيرة.إبراهيمُ عليه السلام أُلقي في النار، ومع ذلك لم يتزعزع إيمانه بالله؛ أكان في موقف نصرٍ أم هزيمة؟لا شكَّ أنه في قمة النصر وهو يُلقى في النار، كما كان في نصرٍ آخر حين نجا منها.والحسينُ عليه السلام حين استُشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، والمفجعة من جانبٍ آخر، أكان مهزومًا؟عند أهل النظر القاصر، نعم، ولكن في ميزان الحقيقة الخالصة كان منتصرًا؛ فما من شهيدٍ في الأرض تهفو إليه القلوب، وتهتز له الجوانح حبًا وحنينًا وفداءً كالحسين عليه السلام!»
وما إن أنهى خطبته، وصلّى بالناس، وخرج من المسجد، حتى اخترق صدره رصاصُ الغدر. سقط مضرجًا بدمه الطاهر، والجموعُ من حوله تهتف بحياة الشهيد.
لم يبكوه، بل أبصروا به واستبشروا؛ فقد نجح في الاختبار. جاءت الشهادة تحتضنه بعد أن غاب عنها طويلا طويلا!
أبصر الناس باستشهاده نصرًا شعروا به داخل نفوسهم لم يكن ليستشعروه لو عاش فيهم يخطب ألف عام.
وجدوا أن كلماته استنارت بدمه، سرت في عروقهم، أيقظت النائمين، شحذت العزائم، ذكّرتهم أن النصر الخارجي لا يتم دون نصر داخلي بحال من الأحوال.
تعليقات
إرسال تعليق