التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تصاعد نزعة الاستهلاك والأكل وصناعة مجتمع مريض محبط



بقلم/ د. نجلاء الورداني

يشهد المجتمع المصري في العقود الأخيرة تحوّلًا ملحوظًا في علاقته بالطعام، ليس بوصفه حاجة بيولوجية فحسب، بل كرمز ثقافي واجتماعي يعكس التحولات الاقتصادية والقيمية في بنية المجتمع. فالأكل لم يعد مجرد وسيلة لإشباع الجوع، وإنما أصبح وسيلة للتعبير عن الهوية والانتماء الطبقي، ومؤشرًا على الذوق الاجتماعي والرفاهية، وأحيانًا أداة للمباهاة والتمظهر في المجالين الواقعي والافتراضي.


لقد أدّت التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها مصر خلال العقود الأخيرة إلى إعادة تشكيل علاقة الأفراد بالطعام. ومع تصاعد النزعة الاستهلاكية واتساع الفجوة بين الطبقات، أصبح الأكل أحد أهم مجالات التعبير عن المكانة الاجتماعية. فاختيار المطعم أو نوع الوجبة أو طريقة تقديمها لم يعد شأنًا فرديًا بسيطًا، بل صار رسالة رمزية تحمل دلالات عن المستوى الاقتصادي والثقافي. كما ساهمت تغيرات نمط الحياة، وخروج المرأة إلى سوق العمل، وازدياد الاعتماد على الأطعمة الجاهزة، في تحويل الطعام من ممارسة منزلية يومية إلى مشهد اجتماعي عام ذي أبعاد رمزية متعددة.


ولعبت وسائل الإعلام التقليدية والرقمية دورًا محوريًا في تضخيم حضور "معبّرات الأكل". فقد تحوّلت برامج الطهي إلى صناعة متكاملة، وتحوّل الطهاة إلى نجوم، كما انتشرت صفحات ومقاطع الفيديو التي تحتفي بتجارب الطعام وتعرضها كمؤشر على الرقي والتميز. ومع صعود مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح تصوير الطعام ونشره ممارسة رمزية للتعبير عن الذوق والترف، ومظهرًا من مظاهر الوجاهة الاجتماعية الرقمية. وهكذا تحوّل الطعام من فعل يومي بسيط إلى وسيلة للتواصل الاجتماعي والتسويق الذاتي.


على الجانب النفسي، يمكن قراءة الظاهرة باعتبارها إحدى آليات التعويض الرمزي في مواجهة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية. فالكثير من الأفراد، ولا سيما الشباب، وجدوا في استعراض الطعام مساحة للهروب من الإحباطات اليومية، وإثبات الذات من خلال الاستهلاك المظهري. كما تولّد عن ذلك قاموس جديد من التعبيرات والممارسات اللغوية حول الأكل والمتعة والذوق، أصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية اليومية.


إن تزايد معبّرات الأكل في المجتمع المصري لا يمكن النظر إليه كظاهرة سطحية أو هامشية، بل هو مرآة لتحولات أعمق في منظومة القيم والعلاقات الاجتماعية. فالأكل أصبح لغة جديدة تعبّر عن الذات، وتُعيد ترتيب العلاقات بين الطبقات، وتعكس في الوقت ذاته تناقضات الواقع بين الرغبة في الوجاهة وضيق الإمكانات.


وتقتضي قراءة هذه الظاهرة نظرة نقدية تسعى إلى تحقيق التوازن بين الثقافة الغذائية والثقافة الاجتماعية. فالمطلوب ليس إنكار حضور الأكل كجزء من الثقافة الشعبية، بل توجيهه نحو وعي غذائي وثقافي أكثر اعتدالًا. ويمكن للمؤسسات التعليمية والإعلامية أن تلعب دورًا في تعزيز قيم البساطة والوعي الصحي، وإعادة الاعتبار للأكل كجزء من التراث والهوية، لا كوسيلة للتمايز الطبقي أو الوجاهة. إن استعادة هذا التوازن تمثل خطوة ضرورية نحو إعادة بناء علاقة أكثر إنسانية ومعنى بين المصريين والطعام.


نهاية، يبقى الطعام في مصر أكثر من مجرد لقمة تُشبِع الجسد؛ إنه لغة يومية تنطق بها الذاكرة والهوية، تحمل في طياتها حكايات الناس، وتفضح ما تغيّر في ذوقهم وقيمهم... فحين يتكلّم الطعام عن المصريين؛ فإنه في الحقيقة يروي قصة قصة مجتمعٍ يتغيّر على مائدته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، [انظر الرابط: https://alalamalyoumnews.blogspot.com/2024/02/blog-post_67.html ] أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...

رسالة دكتوراة توصي بالتوطين المحلي لصناعة السيارات

حصل الباحث محمد جمال عبد الناصر؛ المدرس المساعد بقسم إدارة الأعمال، بكلية التجارة جامعة عين شمس على درجة دكتور الفلسفة في إدارة الأعمال؛ مع التوصية بتداول الرسالة مع الجامعات الأخرى، وذلك عن رسالته بعنوان "توسيط المسئولية الاجتماعية والتسويق الأخضر في العلاقة بين أخلاقيات الشركات المدركة والولاء للعلامة (دراسة ميدانية)" وتشكلت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبد القادر محمد، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة المنصورة وعميد كلية التجارة جامعة المنصورة الجديدة" رئيسًا "، والدكتورة جيهان عبد المنعم، أستاذ التسويق بكلية التجارة ، ومستشار نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة" مشرفًا"، والدكتورة عزة عبد القادر، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة عين شمس" عضوًا"، والدكتورة حنان حسين، مدرس إدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة عين شمس" مشرفًا مشاركًا". وأجرى الباحث دراسته بالتطبيق على المشتركين في مبادرة تحويل وإحلال المركبات للعمل بالطاقة النظيفة، موصيًا  بأهمية العمل على زيادة المكون المحلي في السيارات داخل مبادرة الإحلال؛ بما...