التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الذكاء الاصطناعي وصناعة الوعي الجمعي: من الخوارزمية إلى الإيديولوجيا



بقلم/ د. نجلاء الورداني


الذكاء الاصطناعي ليس مجرد إنجاز تقني يُستخدم في الصناعة أو تحليل البيانات، بل تحوّل إلى فاعل ثقافي جديد يعيد تشكيل تصوراتنا عن العالم، ويعيد تعريف الوعي الجمعي في المجتمعات المعاصرة. لقد خرجت الخوارزميات من المختبرات لتصبح شريكًا خفيًا في بناء الفكر والذوق والرأي، حتى بات السؤال الملح اليوم: هل ما نفكر فيه حقًا هو نتاج وعينا الحر، أم نتيجة ما تختاره لنا الخوارزميات؟


تحول  الأداة إلى الفاعل الثقافي


بداية، بدا الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة، تُبسّط المهام وتُسرّع الإنجاز. لكن مع تطور شبكات التواصل والمنصات الرقمية، تجاوز دوره التقني إلى دور اجتماعي وثقافي خالص. فالمنصات التي نستخدمها يوميًا — من "فيسبوك" إلى "تيك توك" — لا تكتفي بعرض المحتوى، بل تنتقي وتوجّه، وفق حسابات دقيقة لتفضيلاتنا وسلوكنا، ما يجعلها تتحكم بشكل غير مباشر في ما نعرفه وما نعتقده.

تلك الخوارزميات لا تعمل في فراغ، بل داخل منظومة اقتصادية وثقافية ضخمة تسعى إلى السيطرة على الانتباه، وجعل “الاهتمام” سلعة تُباع وتُشترى. وهكذا، لم تعد التقنية مجرد وسيط، بل أصبحت مُنتِجًا للمعنى، تصوغ ذائقة المستخدم وتوجّه استجابته.


الخوارزمية كأيديولوجيا


حين نُمعن النظر في آلية عمل الذكاء الاصطناعي، ندرك أنه لا يقدّم "حقيقة محايدة"، بل يبني صورة انتقائية للواقع.

تُبرمج الخوارزميات بناءً على قيم، ومصالح، وبيانات تغذيها تجارب بشرية متحيّزة أصلًا. وهنا تبدأ عملية تحويل التقنية إلى أيديولوجيا — أي إلى نظام فكري غير مرئي يفرض رؤيته للعالم.

فالمحتوى الذي يُروّج له، والآخر الذي يُهمّش أو يُخفى، ليسا اختيارًا بريئًا، بل يعكسان مصالح سياسية واقتصادية وثقافية تُعيد إنتاج أنماط السلطة في شكل رقمي جديد.

إننا بإزاء سلطة ناعمة تُمارس عبر الشاشة، حيث تتحول الأيديولوجيا من خطاب مباشر إلى توصية تلقائية: “قد يعجبك هذا”، “شاهد أيضًا”، “الأكثر تداولًا”.


إعادة تشكيل الوعي الجمعي


في المجتمعات التقليدية، كان الوعي الجمعي يتكوّن عبر التجارب المشتركة، والمؤسسات الاجتماعية، والتفاعل الحي بين الأفراد. أما اليوم، فقد تولّت المنصات الرقمية مهمة إعادة تعريف هذا الوعي، عبر آليات خفية توحّد الانتباه وتوجّه النقاشات العامة.

لم تعد الذاكرة الجماعية تُبنى على المشاركة الإنسانية، بل على تغذية خوارزمية تقيس ردود الأفعال وتحسبها بلغة الأرقام. وهكذا يتحوّل الوعي الجمعي إلى نتاج حسابي أكثر منه تجربة إنسانية حية، تُحدَّد ملامحه من خلال منطق "الترند" و"المحتوى المقترح".

إننا نعيش في زمن "الوعي الصناعي"، حيث لا تصدر الجماهير أفكارها من وعيها النقدي، بل من تدفقات رقمية تُعاد صياغتها في كل لحظة.


الحرية في زمن الذكاء الصناعي


ويبقى السؤال: هل ما زال الإنسان حرًّا في تفكيره؟

في ظل التوصيات المبرمجة، والإعلانات المستهدِفة، والمحتوى المصمم لزيادة الإدمان، تتراجع حرية الاختيار لصالح التحكم غير المرئي. فالإنسان يظن أنه يختار، بينما هو يتحرك داخل فضاء محدود من الخيارات صممته الخوارزمية مسبقًا.

هذه السيطرة الناعمة لا تُمارس بالقمع أو الإكراه، بل بالإغراء والراحة. فكلما شعر المستخدم بأن النظام “يعرفه”، ازداد التصاقًا به، واستسلم طوعًا لتوجيهاته.


نحو ذكاء إنساني موازٍ


ومع هذا، لا يمكن التعامل مع الذكاء الاصطناعي بوصفه خطرًا مطلقًا، بل تحديًا حضاريًا يتطلب يقظة نقدية جديدة. فبدلًا من رفض التقنية، علينا أن نُطوّر ذكاءً إنسانيًا موازياً — قدرة على القراءة والتحليل والمساءلة — تحرّر وعينا من هيمنة الخوارزمية.

الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا، بل مرآة تكشف مدى هشاشتنا الفكرية أمام الإبهار الرقمي. والمستقبل لن يُصنع فقط بالبيانات، بل بالقدرة على فهمها وتوجيهها أخلاقيًا وإنسانيًا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، [انظر الرابط: https://alalamalyoumnews.blogspot.com/2024/02/blog-post_67.html ] أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...

رسالة دكتوراة توصي بالتوطين المحلي لصناعة السيارات

حصل الباحث محمد جمال عبد الناصر؛ المدرس المساعد بقسم إدارة الأعمال، بكلية التجارة جامعة عين شمس على درجة دكتور الفلسفة في إدارة الأعمال؛ مع التوصية بتداول الرسالة مع الجامعات الأخرى، وذلك عن رسالته بعنوان "توسيط المسئولية الاجتماعية والتسويق الأخضر في العلاقة بين أخلاقيات الشركات المدركة والولاء للعلامة (دراسة ميدانية)" وتشكلت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبد القادر محمد، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة المنصورة وعميد كلية التجارة جامعة المنصورة الجديدة" رئيسًا "، والدكتورة جيهان عبد المنعم، أستاذ التسويق بكلية التجارة ، ومستشار نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة" مشرفًا"، والدكتورة عزة عبد القادر، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة عين شمس" عضوًا"، والدكتورة حنان حسين، مدرس إدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة عين شمس" مشرفًا مشاركًا". وأجرى الباحث دراسته بالتطبيق على المشتركين في مبادرة تحويل وإحلال المركبات للعمل بالطاقة النظيفة، موصيًا  بأهمية العمل على زيادة المكون المحلي في السيارات داخل مبادرة الإحلال؛ بما...