قصة قصيرة بقلم/ عبد الرحمن هاشم
كان "داير" يعدّ المساجد بحق سوقه الرائجة؛ يمضي بينها خفيفًا كظلّ، سريعًا كلمح برق، لا يسمع تكبيرة الإحرام حتى يكون قد دخل متسلّلًا، يتصيّد ما يمكن اختطافه من متعلّقات المصلين الوادعين، بعينيه الصغيرتين الخبيرتين اللتين لا تخطئان فريسة.
ولو سُئل عن مهنته للَعَنَها شرّ لعنة؛ فهو واحد من أولئك الذين يبرّرون طريقهم المظلم بنشأة في الشوارع وغياب بيتٍ يحمي أو يدٍ تُقوم. ولربما لو امتلك حقّ الاختيار لآثر أن يكون خفيرًا أو بوّابًا، أو سمسارًا للعقارات، يرتدي جلبابًا نظيفًا ويقف على باب رزق حلال واضح.
لكن "داير" كان له سببه الخاصّ في اختيار المساجد دون غيرها…
فهؤلاء الذين يدخلونها يتركون الدنيا خمس مرات في اليوم خلف ظهورهم، ويقفون أمام ربّهم يرجون العفو والنجاة؛ وكان يظنّ أن يده إن امتدّت إلى جيوبهم فلن يجد منهم بطشًا، فلا مقام للغضب عند من خرج من الدنيا إلى الصلاة!
ثم إن المرة الوحيدة التي جرّب فيها السرقة خارج المساجد – وكانت في قطار – جعلته يتوب عن التجربة نفسها لا عن الفعل: ضبطوه، اجتمعوا عليه ضربًا وركلاً، ودحرجوه من القطار المسرع، فسقط في ترعة… ولولا رحمة الله لهلك في الحال.
تلك الليلة عاد منها بدرسٍ غريب:
“القطارات غادرة… أمّا المساجد فرحمة.”
ومن يومها صار يجوب المدن، ينتقل من مسجد لآخر، لا يعيد الكرة في مسجد واحد مرتين، فهو بلا زوجة ولا ولد، ولا شيء يخشى عليه سوى نفسه.
ساقه سعيُه ذات يوم إلى مسجد ومقام سيدي عبد القادر بمينا البصل بالإسكندرية. كانت الاستعدادات للمولد على قدم وساق، وشيء ما في المكان جرّه لأن يبقى… قرّر أن يؤخر “غرضه” إلى الليلة الكبيرة.
عند الأصيل دخل دورة المياه ليغتسل، فإذا بتلاوة بصوت الشيخ المنشاوي تخترق المكان… كان ختام سورة الزخرف، بصوته المستغرق في الحزن:
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ...}
توقفت يداه، وسكن جسده.
سمع الآيات كأنها تُتلى عليه وحده.
شعر أن كل حرف يضع إصبعه على جُرح.
خرج من الدورة متثاقلًا، وصلى المغرب، ثم دخل مع الداخلين في "الحضرة".
وفجأة دوى صراخ:
ارتبك الجمع، لكن "داير" قفز.
بعينٍ خبيرة لم تخطئ اللصّ.
سبقه بخفة ظبي، وقيده، وانتزع المحفظة من حذائه، ودفعها لصاحبها…
ظلّ الرجل يهتف:
"محفوظ ببركة سيدي عبد القادر!"
توقف "داير" مكانه…
أحسّ أن شيئًا يُكتب له في السماء.
في اليوم التالي جلس في حلقة الشيخ، فسمع حكاية عن شيخه الراحل:
أن رجلًا خان أمانة مالٍ كبير كان للفقــراء… زوّج به نفسه وتوارى. فأشار أصحاب الشيخ أن يذهبوا ويأتوا به مقيدًا. لكن الشيخ قال:
- الدنيا كلها… لا تساوي أن تُرعبوا أخاكم!
تزلزل قلب "داير".
بكى خفية.
ولم يفهم كيف يقدر إنسان على هذا الصفح.
وفي أصيل اليوم الثالث، دخل ضريح الشيخ لأول مرة.
اقترب من المقصورة…
مدّ يديه…
قرأ الفاتحة، وكأنه يقرؤها على عمرٍ مضى.
ثم تراجع إلى الوراء، وجلس في زاوية صغيرة، ضمّ ركبتيه إلى صدره، تكور ونام.
وفي نومه…
رأى رجلًا نورانيًا يقترب، لا يرى ملامحه، لكن صوته كان واضحًا، حاسمًا، عميقًا:
– لا تُسافر.
انتفض "داير" من نومه…
كان الليل لا يزال في منتصفه، والمسجد ساكنًا إلا من أوراد المريدين.
رفع رأسه إلى الضريح…
وللمرة الأولى في حياته شعر أن أحدا يهتم به…
كما شعر أنه محفوظ ليس فقط من قطع يد، بل من الضياع.
منذ تلك الليلة، لم يعد "داير" كما كان.
ولم يقصد أحدا ليسرقه…
بل صار الناس يلمحونه في المساجد يحذرهم من اللصوص، أو يناول عجوزًا حذاءه، أو يسقي المصلّين.
ويقال – ولا أحد يجزم – أنه صار خادمًا للضريح…
يكنس ساحته قبل الفجر…
وكأنه يكفّر عن كل خطاياه…
وما عاد يسافر.
لأنه لا يزال يسمع في قلبه، إلهامًا لا يخطئه:
– لا تُسافر… فقد وُلدت هنا من جديد.
تعليقات
إرسال تعليق