بقلم د. إيمان شاهين
في زمن تتسارع فيه الخطوات وتتغير فيه الملامح كل يوم، تبقى القيم التربوية الثابتة هي الجسر الذي يعبر به الأبناء نحو مستقبل آمن، وهي البذرة الأولى التي تُزرع داخل الطفل ليكبر وهو يعرف نفسه جيدًا، ويحترم الآخرين، ويتحمل مسؤولية اختياراته، ويملك القدرة على التمييز بين ما ينفعه وما يضره.
فالأسرة القوية لا تُبنى بالصوت العالي ولا بالعقاب الشديد، بل تُبنى طفلاً طفلاً، وموقفًا بعد موقف، واحتواءً يتكرر كل يوم حتى يطمئن الطفل أن لديه ظهرًا قويًا يحمله لا يكسره.
الطفل الذي ينشأ على الاحترام، ليس احترام الآخرين فقط بل احترام نفسه أولًا، يصبح أكثر وعيًا بحدوده، وأكثر قدرة على التعبير عن رأيه دون خوف، وأكثر قدرة على قبول الاختلاف دون إحساس بالتهديد.
أما الصدق، فهو قيمة تتشكل داخل الطفل عندما يجد بيئة تستقبل أخطاءه دون عنف، وحوارًا يشرح، وصبرًا يحتوي، فيشعر بالأمان الكافي ليقول الحقيقة دون خوف من العقاب.
وعلى الجانب الآخر، تأتي قيمة المسؤولية التي تتحول من مجرد كلمات إلى ممارسة يومية، حين يتعلم الطفل أن له دورًا داخل الأسرة، وأن الأعمال الصغيرة التي يقوم بها لها قيمة ومعنى، وأن وجوده ليس هامشيًا بل مؤثرًا في البيت كله.
وحين يتعلم الطفل الرحمة، من مشاهد بسيطة داخل المنزل، كطريقة تعامل الأبوين مع بعضهما، أو مع كبار السن، أو حتى مع الحيوانات، فإنه يكتسب قلبًا لينًا يدرك قيمة المشاعر الإنسانية، ويعرف أن القوة الحقيقية ليست في الصوت المرتفع بل في القلب المتسع.
أما الانضباط، فهو ما يعلّم الطفل أن النجاح لا يأتي صدفة، وأن الحرية تحتاج إلى وعي، وأن هناك وقتًا للّعب ووقتًا للعمل ووقتًا للراحة، وأن الحياة تُدار بقواعد واضحة لا بالفوضى.
وكل هذه القيم لا تأتي من محاضرات طويلة، بل من لحظات يومية بسيطة: كلمة تشجيع في وقت مناسب، ابتسامة تطمئن، احتضان يخفف، حوار يُفتح به باب العقل قبل القلب، وقصة قبل النوم تحمل معنى يعلق في الروح.
الطفل يتربى بعينيه قبل أذنيه، وبمشاعره قبل عقله، وبما يراه في بيته قبل ما يسمعه في الخارج. ولذلك، فإن الأسرة المستقرة التي يسودها الهدوء والاحترام المتبادل، وتبتعد عن الصراعات المؤذية أمام الأبناء، هي البيئة التي تنمو فيها القيم بقوة دون جهدٍ كبير.
وحين يكبر الطفل وهو يشعر أن له مكانًا محفوظًا داخل البيت، وأن صوته مسموع، وأن مشاعره محترمة، يصبح أكثر ثقة بنفسه، وأكثر قدرة على مواجهة الحياة، وأكثر استعدادًا لبناء مستقبله بوعي ونضج.
إن غرس القيم داخل الأبناء ليس مهمة عابرة، بل رحلة طويلة تبدأ منذ لحظة الميلاد ولا تنتهي إلا حين يصبح الطفل قادرًا على الوقوف وحده دون أن يفقد البوصلة التي زُرعت داخله.
وهذه البوصلة هي ما يضمن للأسرة أن تبقى قوية مهما اهتزت الظروف، وأن تظل متماسكة مهما تغيّرت الدنيا.
فالطفل الذي نزرع فيه قيماً لا تتغير، هو هدية المستقبل، وهو أساس أسرة متماسكة، ومجتمع أكثر استدامة، وحياة أكثر ثباتًا وطمأنينة.

تعليقات
إرسال تعليق