التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الإرث الإذاعي الذي عاد إلى الضوء في زمن التحول الرقمي



بقلم/ د. نجلاء الورداني 

في السنوات الأخيرة، بدا وكأن الفن الإذاعي العريق ينهض من سباته الطويل، يعود مفعماً بالحياة عبر فضاءات لم يكن يوماً جزءاً منها؛ منصّات مثل فيسبوك ويوتيوب وتطبيقات البثّ الصوتي التي تحوّلت إلى بديل عصري للراديو القديم. لم يعد المستمع مضطراً لانتظار موعد ثابت، ولا للجلوس أمام جهاز يلتقط موجات متقطّعة، بل صار بإمكانه الدخول إلى عالم الدراما الإذاعية بضغطة زر، يستمع متى شاء، ويعيد، ويشارك، ويمنح هذا الفن حضوراً يتجاوز ما عرفه في زمنه الذهبي. ومع هذا التحوّل، وجد كثيرون أن المسلسلات الإذاعية امتلكت روحاً جديدة؛ فحين تنتقل الأعمال التي قدّمها عمالقة مثل سناء جميل وكريمة مختار وعبدالرحيم الزرقاني إلى فضاء الإنترنت، يكتشف الجمهور – وخاصة الأجيال الأصغر – أنهم أمام كنوز فنية تحمل دفئاً وصدقاً لا يقدّمه سوى الصوت وحده.


أعمال مثل “ألف ليلة وليلة” بصوت هؤلاء الكبار، حين تبثّ على يوتيوب بجودة مُحسّنة، تتحوّل إلى رحلة حسية كاملة، تجعل المستمع يرى دون أن يرى، ويشعر دون أن يحتاج إلى شاشة. ثم تأتي أعمال جديدة بصوت نجوم معاصرين لتؤكد أن الدراما الإذاعية ليست مجرد ميراث يُعاد تداوله، بل فن قابل للنمو والتجدد. فمسلسلات مثل “رأس السنة” لأشرف عبدالباقي ولقاء الخميسي، و“لازم نعيش” لنيللي كريم، و“دماغ شغالة” لسمير غانم، جميعها وجدت جمهوراً واسعاً بعد نشرها على فيسبوك ويوتيوب، بل إن بعضها حقق نسب متابعة تتجاوز ما تحققه مسلسلات درامية تلفزيونية كاملة. الأمر نفسه يتكرر مع مسرحيات إذاعية حديثة يقدمها محمد هنيدي بصوته المرح، مما يثبت أن حضور الفنان الكبير في المسلسل الإذاعي قد يخلق حالة من الاندماج تفوق الصورة نفسها.


ولم يكن انتشار هذه الأعمال مجرد صدفة رقمية؛ فالمسلسلات الإذاعية التي تهاجر إلى الإنترنت تحمل معها طبيعة مختلفة في السرد، فيها دفء إنساني وعمق وجداني يجعل المستمع قريباً من الشخصيات مهما كانت بسيطة. ومع الوقت، اكتشف الفنانون والكتّاب أن المنصّات الرقمية تمنحهم مساحة حرّة للحديث عن موضوعات تمسّ الواقع اليومي للمجتمع: العلاقات الأسرية بكل توترها وتعقيداتها، التحولات الاقتصادية التي تربك حياة الناس، أزمات الشباب وهواجسهم، قضايا المرأة، وتفاصيل المدن والقرى التي تتغير كل يوم. صار الصوت وحده قادراً على نقل عالم كامل من الإحساس، من غير زحام الصورة ولا صخب المؤثرات.


إن الجاذبية التي اكتسبتها المسلسلات الإذاعية في فضاء الإنترنت تعود إلى هذه البساطة العميقة. فالمستمع يجد نفسه قادراً على المتابعة أثناء العمل، في الطريق، قبل النوم، أو في لحظات الاسترخاء. كبار السن يعودون إلى أمجاد فن أحبوه، والشباب يكتشفون شكلاً مختلفاً من الحكي لم يعاصروه. أما التكنولوجيا فتقوم بدور المرمّم، تعيد للصوت وضوحه وعمقه، وتمنحه فرصة جديدة للانتشار عبر المشاركات والتعليقات التي تتحوّل إلى ساحة نقاش حقيقية حول العمل.


وهكذا، لم يعد المسلسل الإذاعي مجرد أثر من الماضي، بل فناً يتجدد عبر الوسائط الرقمية، يحتفظ بعراقته وصدقه، ويتكيّف مع إيقاع الحياة الحديثة. إن الرقمنة هنا لم تُضعف الدراما الإذاعية، بل أطلقتها من حدود الزمن القديم، لتصبح جزءاً من حياة الناس اليومية، حاضرة في كل هاتف محمول، وفي كل لحظة يمكن أن تتحول فيها ضغطة واحدة إلى رحلة صوتية تحمل قيمة ومغزى، وتعيدنا إلى جوهر الحكاية كما عرفها الفن أول مرة: صوت يبني عالماً كاملاً، ويمنح المستمع لحظة من الدفء في عالم مزدحم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، [انظر الرابط: https://alalamalyoumnews.blogspot.com/2024/02/blog-post_67.html ] أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...

رسالة دكتوراة توصي بالتوطين المحلي لصناعة السيارات

حصل الباحث محمد جمال عبد الناصر؛ المدرس المساعد بقسم إدارة الأعمال، بكلية التجارة جامعة عين شمس على درجة دكتور الفلسفة في إدارة الأعمال؛ مع التوصية بتداول الرسالة مع الجامعات الأخرى، وذلك عن رسالته بعنوان "توسيط المسئولية الاجتماعية والتسويق الأخضر في العلاقة بين أخلاقيات الشركات المدركة والولاء للعلامة (دراسة ميدانية)" وتشكلت لجنة الحكم والمناقشة من الدكتور عبد القادر محمد، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة المنصورة وعميد كلية التجارة جامعة المنصورة الجديدة" رئيسًا "، والدكتورة جيهان عبد المنعم، أستاذ التسويق بكلية التجارة ، ومستشار نائب رئيس جامعة عين شمس لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة" مشرفًا"، والدكتورة عزة عبد القادر، أستاذ التسويق بكلية التجارة جامعة عين شمس" عضوًا"، والدكتورة حنان حسين، مدرس إدارة الأعمال بكلية التجارة بجامعة عين شمس" مشرفًا مشاركًا". وأجرى الباحث دراسته بالتطبيق على المشتركين في مبادرة تحويل وإحلال المركبات للعمل بالطاقة النظيفة، موصيًا  بأهمية العمل على زيادة المكون المحلي في السيارات داخل مبادرة الإحلال؛ بما...