أ.د. توفيق محمد الشاوي
إن كل ما نقدمه
من آراء أو نستنبطه من أحكام لا بد أن يكون لـه دليل من نصوص القرآن أو السنة
المطهرة التي تقرر مبادئ أساسية منها "عالمية الإسلام"، والنص الذي نبدأ
به هو قوله عّز وجل: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس"،
وقوله عز وجل: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة"، أي أن أمة الإسلام
هي أوسط الأمم، وإذا كان لهذه الوسطية تفسيرات عديدة، فإنها كلها تفترض وجود أمم
أخرى في العالم لا بد أن نحدد موقف أمتنا منها، وعلاقتها بها على ضوء هذه المبادئ.
معنى ذلك أن
أمتنا هي إحدى الأمم في العالم، وصبغة العالمية إذا نسبت إليها، فمعنى ذلك أن لها
دورا (منفصلا)، أو (متوسطا)، أو (معتدلًا)، في العالم وليس لأنها ستضم العالم كله،
أما الإسلام فهو عالمي بمعنى أنه يخاطب العالم كله بجميع أممه، سواء غير المسلمين
أو المسلمين، أما أمتنا فهي حاملة هذه الرسالة العالمية، ومبلغة لها، وشاهدة على
الناس بأنها قد بلغت، كما قال رسولنا الكريم في خطبة الوداع (ألا هل بلغت)،
والتبليغ يستلزم أن ننفتح عليهم ونحاورهم كما حاور القرآن المشركين والكفار، وقدم
لهم الحجة تلو الحجة، والدليل بعد الدليل وما زال هذا الحوار محفوظًا مسجلا في
القرآن إلى يوم الدين.
وعلى ذلك فإن
الظن أن ما بيننا وبين غيرنا هو فقط حالة الحرب والقتال فيه تناقض مع عالمية دورنا
كأمة وسط شاهدة على الناس.
صحيح أن فقهاءنا
لم يعرضوا كثيرا رأيهم في أحكام العلاقات السلمية بيننا وبين غيرنا وسبب ذلك أن
هذه الأحكام تؤسس على مواثيق وعهود بيننا وبينهم، أي أن علينا أن نستنبط نحن هذه الأحكام
ونضمنها ما بيننا وبين الأمم الأخرى من عهود ومواثيق، نهتدي فيها بأسس شريعتنا
ومبادئها.
يظهر لي أننا
تجاهلنا ذلك إلى حد كبير، واكتفينا بترديد ما يفهم منه أن العلاقة الوحيدة بيننا
وبين غيرنا هي علاقة الحرب كما كانت في عصر الفتوح، وتجاهلنا حالة العهد بيننا
وبين غيرنا من الأمم، ولم نقدم الأسس التي تقوم عليها العهود والمواثيق التي تحكم صلتنا
بهم وعلاقتنا السلمية معهم، وكانت النتيجة أن هذا الموضوع أصبح خاضعا للقانون
الوضعي ولما تفرضه الظروف أو يفرضه الطرف الأقوى، وهو الآن (بكل أسف) غيرنا، بل هو
عدونا... ولم تعد شريعتنا ولا فقهنا مصدرا (أساسيا) من مصادره.
كان علينا أن نفرض على أنفسنا وعلى العالم كله ما قدمته شريعتنا من
أسس ثابتة خالدة لحقوق الإنسان وحريات الشعوب.. لكننا لم نفعل، فأصبح غيرنا هو
الذي يتكلم الآن عن حقوق الإنسان، من وجهة نظره، ومن أجل مطامعه ومصالحه، دون
التزام بعقيدة سماوية ولا مبادئ ثابتة.
وها نحن الآن نرى (النظام العالمي) ومن يسيطرون عليه يستغلون ما
يسمونه حقوق الإنسان لتنفيذ خططه في هيمنة القوى الكبرى المعادية لنا التي تعتبر
هدفها هو إخضاع شعوبنا واستغلالها، بل وإبادة بعضها كلما كان ذلك ممكنا.
ونحن مسئولون عن ذلك إلى حد كبير؛ لأننا تجاهلنا مبادئ شريعتنا في
حقوق الإنسان وحرية الشعوب، وقصرنا في استنباط أحكام العلاقات السلمية والإنسانية
بيننا وبين غيرنا واكتفينا بعلاقاتنا بدار الحرب حتى أصبح كثيرون يعتبرون جميع البلاد
الأجنبية هي دار حرب وجميع الأجانب (حربيون) ونسينا المعاهدين الذين هم الآن جميع
شعوب العالم.
إن عالمية الإسلام وشريعته هي أساس الأحكام التي تنظم العلاقات بين
أمة الإسلام وباقي أمم العالم وبين المسلمين "كأفراد وشعوب" مع غيرهم في
حالة السلم، وأصبح هذا يدخل حاليا في نطاق العلاقات الدولية التي ينظمها ما يسمى
بالقانون الدولي.
وفي دراستنا لكتب الفقه لاحظنا أن بعض الأحكام الفرعية الفقهية تحتاج
إلى تجديد ومراجعة لكي نواجه بها التطورات العالمية ونمو العلاقات بين الأمم
والشعوب بسبب سهولة المواصلات وسرعة الاتصالات بين الأفراد في مختلف الدول
والقارات، وبين الشعوب والأمم كذلك حتى أصبح الآن يقال إن العالم أصبح قرية واحدة
وكل من فيه أفراد متضامنون.
إن هذا الواقع
الجديد يحتاج منا إلى مواجهته بأحكام جديدة، يفرضها علينا مبدأ عالمية الإسلام،
وما تفرضه علينا شريعتنا من التعارف والتعاون وتبادل المنافع.
وسوف أكتفي بعرض
نماذج ثلاثة من الأحكام الفرعية التي واجهتني في دراستي للتشريع الجنائي الإسلامي،
وأعتقد أنها تحتاج إلى مراجعة لتتفق مع مبدأ عالمية الإسلام وشريعته في عصرنا
والعصور القادمة وأهمها ما يلي:
1 ـ تقسيم
العالم إلى دار إسلام، ودار حرب.
2 ـ أساس
العصمة، والمقصود بالإهدار.
3 ـ عدم التوازن
في علاقاتنا مع غيرنا، نتيجة الانحياز لأهل الكتاب دون غيرهم.
أولا: لقد مضى
عصر تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب:
من أهم
أصول شريعتنا مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة بين البشر التي عبر عنها رسولنا صلى
الله عليه وآله في خطابه الدستوري (خطبة الوداع)، بقوله: (يا أيها الناس إن إلهكم
واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على
أبيض إلا بالتقوى).
كما أن تكريم
الإنسان قرره القرآن الكريم في قوله ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...﴾
والكرامة التي أسبغها الله على عباده شاملة لجميع بني آدم، ولا يجوز أن تختص بها
أمة واحدة..
وقد أنكر اليهود
ذلك المبدأ وابتكروا مبدأ التمييز العنصري لصالحهم زاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه،
وانتقلت عدوى هذا التمييز إلى المسيحيين الذين خصوا به العنصر الأبيض دون باقي
البشر.
أما الإسلام فمنذ نشأته ألزمنا
الرسول الكريم بالمساواة بين البشر جميعا وأعلن إدانته لكل تمييز بسبب النسب أو
اللون أو الجنس، وأن يبقى باب التفاضل بين الأفراد فقط على أساس التقوى والعمل
الصالح.
وفي موقفنا مع غيرنا قال عز وجل
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ..﴾
وقوله عز وجل ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فأجره..﴾.
رغم ذلك كله قد لاحظت أن كتب الفقه
الحديثة والقديمة ما زالت تردد القول بأن العالم ينقسم إلى قسمين لا ثالث
لهما:(دار إسلام، ودار حرب)، والعلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب هي العداء
والقتال وينظمها ما يسمى في العالم الحاضر بقانون الحرب الذي يطبق فقط في حالة
الحرب ولا يتجاوزها، أما العلاقات الإنسانية والسلمية والمدنية والتجارية
والثقافية بين الأمم والشعوب وهي ضرورية لنا مع غيرنا بصفة دائمة في غير حالة
الحرب وفي ظل السلم، فإن فقهائنا لا يستعرضونها وعذرهم في ذلك أنها في نظرهم
تحكمها العهود والمواثيق التي تعقد بين الدول والشعوب.
لكن علينا أن نستنبط من مصادر
شريعتنا الأسس والمبادئ التي يجب أن تحكم هذه العهود.
وقد لاحظت في كتاب «التشريع
الجنائي» (لعبد القادر عوده)، أنه استطرد للقول بأن هذين القسمين: (دار الإسلام
ودار الحرب) لا ثالث لهما، وهذه هي عبارته في البند رقم (210) تحت عنوان تقسيم
العالم: (لقد نظر الفقهاء إلى هذا الاعتبار حين قسموا العالم كله إلى قسمين لا
ثالث لهما: الأول يشمل كل بلاد الإسلام، ويسمى دار الإسلام، والثاني يشمل كل
البلاد الأخرى ويسمى دار الحرب، لأن القسم الأول يجب فيه تطبيق الشريعة الإسلامية
أما القسم الثاني فلا يجب فيه تطبيقها لعدم إمكان هذا التطبيق).
نتج عن ذلك أن كثيرين أصبحوا
يعتقدون أن كل البلاد غير الإسلامية هي دار حرب، وقد عبر عن ذلك فقيهنا الشهيد
«عبد القادر عوده» بقوله في البند رقم 212، تحت عنوان دار الحرب:
«تشمل دار الحرب كل البلاد غير
الإسلامية التي لا تدخل تحت سلطان المسلمين، أو لا تظهر فيها أحكام الإسلام، سواء
كانت هذه البلاد تحكمها دولة واحدة أو تحكمها دول متعددة، ويستوي أن يكون بين
سكانها المقيمين بها إقامة دائمة مسلمين أو لا يكون، ما دام المسلمون عاجزين عن
إظهار أحكام الإسلام... ثم أضافوا «أي فقهاؤنا» أن مواطني تلك البلاد غير المسلمين
جميعا هم حربيون، بل مهدرة دماؤهم وأموالهم».
ثم عاد يقول في البند (218) ما
يلي: «تعتبر النظريات الإسلامية كل البلاد الأجنبية دار حرب واحدة مع اختلاف الدول
التي تحكمها، فقد كان المسلمون يحاربون الترك والروس والهنود والإسبان والفرنسيين
والرومان، وكانوا يعتبرون بلاد كل هؤلاء وغيرهم دار الحرب».
«فالمقصود إذن من تقسيم العالم إلى
قسمين: أن أحدهما: دار أمن وسلام المسلمين، والثاني: دار خوف وعداء للمسلمين،
وبيان الأحكام التي تسري على المقيمين في كل دار «على هذا الأساس»، وقد اعتبرت
البلاد الإسلامية على اختلاف حكوماتها دارا واحدة؛ لأنها محكومة بقانون واحد هو
الشريعة الإسلامية، فهي من هذه الوجهة وحدة قانونية لا تختلف فيها الأحكام باختلاف
الجهات، ولا باختلاف الأجناس واعتبرت البلاد غير الإسلامية دارا واحدة؛ لأن
الأحكام التي تسري عليها طبقا للشريعة الإسلامية أحكام واحدة لا تختلف باختلاف
الجهات واختلاف الأجناس، وهذا هو الأساس الصحيح لتقسيم العالم إلى دار حرب ودار
إسلام».
ويفسر ذلك الشهيد (عودة) في البند
رقم 212، تحت عنوان سكان دار الحرب على نوعين:
«فهم إما «حربيون» وإما «مسلمون»:
فالحربيون هم سكان دار الحرب الذين لا يدينون بالإسلام، ويقال لأحدهم حربي،
والحربيون غير معصومين، فدماؤهم وأموالهم مباحة ما لم يكن بينهم وبني دار الإسلام
عهد أو هدنة، لأن العصمة في الشريعة لا تكون كما قلنا إلا بأحد شيئين بالإيمان أو
الأمان).
«وليس للحربيين إذا لم يكن بينهم
وبين دار الإسلام عهد أن يدخلوا دار الإسلام، فإذا دخلها أحدهم فهو مباح الدم
والمال، ويجوز قتله ومصادرة أمواله، كما يجوز أسره والعفو عنه».
«وإذا دخل الحربي دار الإسلام بإذن
أو أمان خاص أو بناء على عهد فهو مستأمن، فإذا انتهى أمانه، عاد حربيا كما كان
مهدر النفس والمال إذا ترك دار الإسلام، أما إذا بقي فيها مختارا فيرى البعض أنه
يصبح حربيا، ويرى البعض أنه يصبح ذميا باختياره البقاء في دار الإسلام ويصير
معصوما عصمة مؤبدة».
معنى هذا القول، أن غير المسلمين
لا يشاركوننا في الإنسانية، وليسوا من بني آدم الذين كرمهم القرآن الكريم بقوله عز
وجل ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...﴾ وزاد على ذلك أنه تجاهل وجود دار العهد
التي أصبحت تشمل بلاد العالم كله الآن.
أما أنا فإنني لا أوافق على القول
بأن العالم يشمل قسمين لا ثالث لهما «دار الإسلام» و«دار الحرب» لأن هذا قول
يتجاهل القسم الثالث وهو «دار العهد» الذي يشمل البلاد غير الإسلامية التي يكون
بينها وبين المسلمين عهود مسالمة، وهذا القسم أصبح الآن يضم جميع بلاد العالم التي
تعاهد معها المسلمون بعهود جماعية مثل ميثاق الأمم المتحدة فضلا عن العهود
الثنائية، وخاصة فيما يتعلق بالتمثيل السياسي والاتفاقات الإقليمية والتجارية وما
إليها».
في نظرنا، أن القول بأن كل البلاد
غير الإسلامية هي دار حرب، قول غير صحيح ولا يجوز إطلاقه بهذه الصورة، التي تتجاهل
العهود والعقود التي تربط المسلمين بالدول الأخرى، والتي تجعلها دار عهد.
والصحيح أن العالم كله أصبح الآن
دار عهد، ولا يجوز أن توصف دولة غير إسلامية بأنها دار حرب إلا في حالة وجود حرب
بينها وبين المسلمين، وفي فترة الحرب وفي نطاق قانون الحرب الذي يقوم على مبدأ
المعاملة بالمثل الذي قرره القرآن الكريم بقوله «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم».
في نظرنا، أن ما يسمى بدار الحرب
لم يعد لها وجود في عصرنا الحاضر يبرر وصف كل من يحمل جنسية أجنبية بأنه حربي، في
نظرنا أن هذا وصف خاطئ ويجب تفاديه، ولا يجوز أن نطبق على أي أجنبي أحكام الفقه
بشأن الحربيين إلا إذا كان ممن يحاربوننا فعلا، يؤكد ذلك أن القاضي (عودة) أضاف
«في موضع آخر» تحفظا حين قال: «إن الحربي يكون غير معصوم إذا لم يكن بين دولته
وبين دار الإسلام عهد أو هدنة» ثم كرر ذلك حين قال: «إن الحربيين ليس لهم أن
يدخلوا دار الإسلام إذا لم يكن بينهم وبين دار الإسلام عهد».
وتعليقات السيد «الصدر» على هذا
البند ليس فيها أي اعتراض على الرأي الذي ننتقده «كأنه لا جدال فيه» أو أنه لا
يحتاج إلى دليل أو برهان. وهذه هي عبارته في التعليق رقم (334) على البند رقم (212):
«ليس الحربي إلا من لم يكن مسلما ولا ذميا ولم يدخل في أمان المسلمين ومن البديهي
كون الحربي الباقي في بلاد المسلمين تجتمع فيه الأوصاف الثلاثة».
وأنا لا ألوم القاضي (عودة) ولا
السيد (الصدر)؛ لأن من المرجح أن هذا هو ما قاله أغلب فقهاء السلف من السنة
والشيعة، وهو رأي كان لـه أساس في حينه، لكن ظروف عصرنا تجعله غير ممكن التطبيق، وأعتقد
أن كثيرين من المعاصرين يؤيدون وجهة نظري، وإن كنت لم أسمع أو أقرأ شيئاً عنه، فمن
كان عنده معلومات في هذا الموضوع فإنني أكون شاكرا لو دلني عليها؛ لأنها تؤيد ما
قلته.
ثانياً: عصمة الدماء والأموال
واجبة لبني آدم (كلهم)، وليست امتيازا لفريق معين من البشر دون غيرهم:
قال فقيهنا القاضي عودة (في البند
212): «إن العصمة في الشريعة لا تكون إلا بأحد شيئين: بالإيمان أو الأمان...) وبني
على ذلك قوله «كما يعتبر(الحربي) مباح الدم إذا دخل دار الإسلام دون إذن، فكذلك
يعتبر المسلم والذمي مباحي الدم للحربيين إذا دخل دار حرب دون إذن» وذلك رأي أبي
حنيفة ويضيف لذلك «يرى أبو حنيفة أن المسلم المقيم في دار الحرب ولم يهاجر إلى دار
الإسلام غير معصوم بمجرد إسلامه؛ لأن العصمة عند أبي حنيفة ليست بالإسلام وحده،
وإنّما يعصم المسلم عنده بعصمة الدار ومنعة الإسلام المستمدة من قوة المسلمين
وجماعتهم، والمسلم في دار الحرب لا منعة لـه ولا قوة فلا عصمة لـه، ولكن لـه أن
يدخل دار الإسلام في أي وقت، فإذا دخلها استفاد العصمة».
«وكما يعتبر الحربي مباح الدم إذا
دخل دار الإسلام دون إذن، فكذلك يعتبر المسلم والذمي مباحي الدم للحربيين إذا دخل
دار الحرب دون إذن أو أمان، فإذا دخل بإذن أو أمان سمي كلاهما مستأمنا على أن تكون
إقامته مؤقتة، وله أن يرجع إلى دار الإسلام في أي وقت شاء، فإذا رأى المسلم أن
يبقى بصفة دائمة في دار الحرب، فذلك لا غيَّر من أمره شيئا ما دام باقيا على
إسلامه، فإن خرج عن إسلامه صار حربيا، وإذا أراد الذمي أن يقيم إقامة دائمة في دار
الحرب انقلب حربياً».
ونحن نعارض هذا القول، لأن العالم
كله أصبح الآن دار عهد، ودار الحرب لا تشمل إلا الدول التي تكون في حرب فعلية مع
المسلمين، وفي فترة الحرب فقط. كما أن دار الإسلام لا تشمل إلا البلاد التي تعلن
السلطات المسيطرة عليها بأنها تطبق شريعتنا وتخضع لها وتلتزم بها، أما البلاد
الإسلامية التي يعلن حكامها أنهم لا يلتزمون بشريعتنا، بل ويضطهدون من يطالبون
بتطبيق الشريعة، وكل من يؤيدونهم، فلا يجوز أن نقول إنها دار إسلام يلتزم المسلم
بالهجرة إليها. الحقيقة هي أن دار الإسلام معرضة للانكماش مثل دار الحرب في عصرنا
الحاضر.
كثيرون يفترضون أن كل البلاد التي
يسكنها أغلبية مسلمة تعتبر بلدا إسلاميا أو دار إسلام على أساس أنها تطبق فيها
الشريعة الإسلامية، وبني على ذلك عبد القادر عودة قولـه في البند (218): «... إن
تعدد الدول الإسلامية لن يمنع اليوم من تطبيق النظريات الإسلامية كما لم يمنع من
تطبيقها قديما، فقد طبقها الأندلسيون في الأندلس، والمغاربة في المغرب، والعلويون
في مصر، والعباسيون في بغداد، ونستطيع اليوم أن نطبقها في مصر وفي لبنان وفي سوريا
والعراق والحجاز والباكستان وفي المغرب، وفي كل بلد إسلامي لـه حكومة تحكمه وحدود تحده».
«ومن السهل تطبيق النظريات
الإسلامية اليوم، ولكن تطبيقها يقتضي من كل دولة إسلامية أن تعتبر نفسها ممثلة
للإسلام في جميع بقاع العالم لا في داخل حدودها فقط، فمثلا إذا أردنا أن نطبق
نظرية أبي حنيفة في مصر فإننا نعاقب أولا من يرتكب جريمة داخل حدود البلاد المصرية
مسلما كان الجاني أو ذميا، مصريا أو شاميا أو عراقيا أو فلسطينيا أو فارسيا وهكذا؛
لأن كل فرد من رعايا أي دولة إسلامية لا يعتبر أجنبيا بالنسبة لأية دولة إسلامية
أخرى؛ ولأن بلاد الإسلام كلها دار واحدة تحكمها شريعة واحدة، ونعاقب ثانيا كل
هؤلاء على أية جريمة يرتكبونها في أي بلد إسلامي آخر سواء كانوا يقيمون في مصر
إقامة دائمة أو إقامة مؤقتة، بشرط أن لا يكونوا قد عوقبوا على هذه الجريمة في محل
ارتكابها أو في أي بلد إسلامي آخر».
ونحن نرى أنه إذا كان تعميم صفة
دار الحرب على جميع البلاد غير الإسلامية يؤدي إلى نتائج غير مقبولة، فإن تعميم
صفة دار الإسلام على جميع الأقطار التي تسكنها أغلبية مسلمة هو أمر لا يتفق مع
واقع عصرنا حيث إن أغلب دولنا لا تلتزم بتطبيق الشريعة.. وليس بصحيح قولـه إن
إقليم كل دولة من دولنا المعاصرة يعتبر جزءا من دار الإسلام وإن من يرتكب فعلا
تعاقب عليه الشريعة على أي إقليم من أقاليم هذه الدولة العصرية التي يعتبرها
إسلامية تطبق عليه أحكام شريعتنا ولا أنه يجب على أي دولة إسلامية أخرى تطبق
الشريعة الإسلامية أن تطبق العقوبة المقررة في الشريعة على كل مواطني تلك الدول
على الجرائم التي يرتكبونها على إقليم أية واحدة منها، حتى ولو كانوا قد حوكموا في
بلادهم أو في أي بلد أخرى، لكن طبقت عليهم عقوبات وضعية غير التي تقررها الشريعة، وهذا
هو قولـه: «إذا كانوا قد عوقبوا على الجريمة في أي بلد إسلامي آخر بغير العقوبة
التي توجبها الشريعة، وجب أن يعاقبوا مرة ثانية بالعقوبة المقررة في الشريعة؛ لأن
بلاد الإسلام كلها دار واحدة مهما اختلفت حكوماتها؛ وإن الإسلام يوجب على كل دولة
إسلامية أن تقيم أحكامه وأن تبادر إلى تغيير المنكر والنهي عنه، ومن تغيير المنكر أن
تبادر الدولة بتوقيع العقوبة التي توجبها الشريعة على من استحقها» وعلل ذلك بقوله:
«إن من واجب كل حكومة إسلامية أن تقيم الحدود ولا تؤخرها، فإذا تركتها وجبت
على أي حكومة أخرى تستطيعها».
ثم إن السيد الإمام المجتهد (الصدر)
في تعليقه رقم (370) أيد هذا القول وقال «إنه هو القول الراجح في الفقه الجعفري»
دون أية مناقشة.
ونحن نعارض هذا الرأي وحجتنا «إن
دار الإسلام لم تعد بالصورة التي تحدَّث عنها الفقهاء من قبل عندما قالوا إنها هي
البلاد التي تحكم بالشريعة الإسلامية؛ لأن كثيرا من الدول الإسلامية القطرية لا
تلتزم الآن بتطبيق الشريعة بل هناك من يعاقبون الذين يدعون إلى تطبيقها أو يطالبون
به ويتهمونهم بالتطرف أو الرجعية أو التآمر أو الإرهاب وهناك من يحرضون الدول
الأجنبية للقضاء على المطالبين بتطبيق الشريعة إذا لجأوا إليها هربا من اضطهاد بعض
السلطات في بلادهم وهناك من يحرمون شعوبهم من الانتخابات الحرة إذا أدت إلى نجاح
من يدعون للإسلام وشريعته، ويعللون ذلك بأن القوى الأجنبية ذات النفوذ العالمي تريد
ذلك، وأن العالم أصبح قرية واحدة يحكمها نظام عالمي غير إسلامي تسيطر عليه قوى
أجنبية تمثل أغلبية على المستوى الدولي، إنهم يلتزمون بالسير مع الأغلبية غير
الإسلامية في هذا النظام الدولي، وهي في نظرهم تكره الإسلام وتعادي الأصوليين
الذين يطالبون بتطبيق الشريعة ولهذا فإن بعض الحكام الواقعيين يفضلون أن يلتزموا
بما تفرضه علينا القوى الأجنبية».
___
«وناحية أخرى... إنهم يصفون دار
الإسلام بأنها دار أمن للمسلمين، وأن دار الحرب دار خوف وعداء للمسلمين، ويجب أن
يستثنى من ذلك بعض الحالات عندما نرى من يطالبون بتطبيق الشريعة يجدون في بعض
الدول الأجنبية أمنا لا يتوفر لهم في بلادهم التي ينتمون إليها والتي يعتبرها
البعض بلاد إسلامية ولو كانت تضطهد من يطالبون الشريعة».
إن البحث في تطبيق الشريعة
الإسلامية على أفعال الأفراد في الخارج يستلزم البحث في تطبيقها على الحكام في
الداخل أولا، فلابد أولا من تطبيقها على الدول ذاتها ومن يتولون السلطة فيها،
وكثير منهم لا يعترف بالشريعة ولا يخضع لأحكامها، بينما يفرضون سلطتهم على شعوبهم
بالقوة دون شورى حرة، فكيف يطالبهم البعض بأن يطبقوا العقوبات الشرعية، وخاصة
الحدود على الأفراد؟ هؤلاء يجب عليهم أن يفكروا جيدا فيما أقوله وهو:
إن تطبيق العقوبات الشرعية وخاصة
الحدود لا يجوز أن يقوم به حكام لا يلزمون أنفسهم بأحكام الشريعة أو يبيحون
لأنفسهم مخالفتها والتباهي بعدم الالتزام بها، ثم يطالبهم البعض بتطبيق الحدود،
وقد يزعمون أنهم سوف يطبقونها على الأفراد...
إن الشرط الأول لتطبيق الحدود أو
المطالبة بها هو إقامة السلطة التي تخضع للشريعة والحكومات التي تلتزم بها هي
أولا... وكثير من بلادنا لم تصل إلى هذه المرحلة، ولا نعتقد أن سلطات بعض الدول تكون
مؤهلة لتطبيق الحدود على الأفراد قبل أن تطبقها عليهم وعلى أعوانهم، ولا يجوز في
نظرنا أن نطالب هذه الحكومات الجائرة بتطبيق الحدود على الأفراد، ولا أن نقبل منهم
ذلك ونصفهم بأنهم طبقوا الشريعة لمجرد أنهم طبقوا الحدود على غيرهم، وهم أول من
يجب أن تطبق عليهم تلك الحدود، فإذا لم يستطع المسلمون إقامة هذه السلطة التي
تحترم الشريعة وتلتزم بها، فلا يستطيعون أن يصفوا بلادهم بأنها دار الإسلام، ولا أن
يطبقوا عليها ما قرره الفقه لدار الإسلام التي يصفونها بأنها تطبق الشريعة وأنها
دار أمن وأمان للمسلمين.
«وعلى ذلك فإن كل ما قاله أسلافنا
في هذا الشأن هي أحكام مستقبلية يسعى لها من يطالبون بتطبيق الشريعة ويأملون في
تحقيق ذلك في المستقبل عندما يقيمون حكومة إسلامية صحيحة في بلادهم، وهم لم يصلوا
لذلك في كثير من أقطارنا التي يحكمها الآن من يعارضون تطبيق الشريعة ويدَّعون أنها
قد مضى زمانها، ومنهم كثيرون يغتصبون السلطة ويحكمون بأهوائهم ويلتزمون بقرارات
أعداء الإسلام وسياساتهم، بل ونرى بعضهم يتحالف مع القوى الأجنبية لمنع تطبيق
الشريعة والقضاء على من يعملون لهذا بحجة أنهم أصوليون أو أنهم متشددون أو
متطرفون»..
هذا النوع من المستبدين يزين لهم
فقهاء السلاطين أنهم مؤهلون لمعاقبة الأفراد الذين يعتبرونهم خصوما أو معارضين
وتطبيق حد الحرابة عليهم زاعمين أنهم يطبقون الحدود أو الأحكام الشرعية التي
يرفضون الالتزام بها هم وأعوانهم فهؤلاء يصدق عليهم قول الحق تبارك وتعالى بأنهم
يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض...
إننا نُصرّ على معارضتنا للقول
الجزافي بأن «كل البلاد الأجنبية دار حرب واحدة!!» ونتمسك بأن البلاد الإسلامية
إنّما تعتبر دار إسلام لأنها محكومة بالشريعة الإسلامية، وهذا ما نتمناه ونعمل
لـه، ولكنا بكل أسف نرى أن الطريق لذلك طويل، بل ومحفوف بالأخطار والمخاوف، ونتمنى
أن يكون أول ما تطبقه دولنا هو الدعوة إلى أن كل رعايا الدول الإسلامية وكل
المسلمين لا يجوز اعتبارهم أجانب بالنسبة لأية دولة إسلامية أخرى، لانا نعتبر هذا
بداية لها ما بعدها».
وقد انتقدنا القول بأن الدولة إذا
لم تطبق عقوبات الحدود والقصاص فإنه يجب على الأفراد أن يطبقوها، ولا نوافق عليه؛
لأن الأصح في نظرنا أن الأفراد ملزمون بالجهاد لإقامة الدولة التي تطبق الشريعة،
لا أن يطبقوا هم الحدود بدلا من الدولة أو يطالبون بذلك الحكومة غير الشرعية التي
يستسلمون لجورها وبغيها ويشجعونها على ذلك باستسلامهم.
وأبعد من ذلك عن الصواب هو نسيان
أهمية العقوبات المقدرة شرعا، وأن هذه الأهمية وهذه الخطورة تستوجب ضمانات أكثر
لتطبيقها، وأول هذه الضمانات في نظرنا هو أن تعرض على القضاء الشرعي المستقل
ليتأكد من توفر شروط تطبيقها شرعا وعدم وجود شبهات يترتب عليها سقوطها.
رأينا هو أن أحكام فقهنا
بشأن التفرقة بين دار الإسلام ودار الحرب يجب ألا تؤخذ بهذا الأسلوب السطحي، بل
يجب تطبيق مبادئ شريعتنا بشأن تعريف دار الإسلام بأنها هي الملتزمة بشريعته ويلتزم
حكامها بها، وتعريف دار الحرب بأنها التي لا يكون بينها وبين المسلمين عهد، أو
تكون في حالة حرب فعلاً مع دولة إسلامية بالمعنى الصحيح وفي فترة الحرب فقط...
ونحن نعارض القول: بأن معنى «عدم
العصمة للحربيين (في الحدود السابقة) أنه يجوز للأفراد قتل من أهدرت دماؤهم، لأن
الإهدار الذي نقول به لا يكون إلا بحكم قضائي بعد محاكمة شرعية عادلة...
وإذا قال بعض الفقهاء بأن الحربيين
غير معصومين فيجب أن يراعي فيه ما قلناه عن أن عدم العصمة لا يجيز للأفراد قتل من
وصفهم بأنهم قد أهدرت دماؤهم ولا أن يرددوا قول الامام أبي حنيفة بأن «المسلم
والذي يكونون مباحي الدم إذا دخلوا دار الحرب دون إذن أو أمان» أي أنه يبيح أيضاً
للحربيين إهدار دم المسلم أو الذمي في الحالة التي أشار إليها والصواب أن الإهدار
حكم شرعي يطبقه القضاء لا الأفراد.
(إننا نتحفظ على هذه الأقوال التي
تؤدي إلى إباحة الاعتداء على حقوق الإنسان التي حصنتها شريعتنا، مثل حق كل إنسان
في الحياة وسلامة جسمه وبدنه، وهي في نظرنا حقوق قدستها شريعتنا بدليل أنها فرضت
للعقاب عليها عقوبة القصاص التي قصد بها المشرع في نظرنا حماية حق الإنسان في
حياته وسلامة بدنه، وهي الحماية التي نعتبرها أساس لنظرية شرعية عامة في ضمان حقوق
الإنسان وحمايتها من المساس بها إلا بحكم قضائي تنفذه سلطة شرعية، وعلى ذلك فإننا
لا نبرر قيام فرد بقتل أي إنسان سواء كان حربيا أو ذميا أو مستأمنا أو مسلما بحجة
إقامة الحد عليه، أو بحجة أنه غير معصوم لأن جميع الناس معصومون بصفتهم بشرا
متساوين في الحقوق الإنسانية؛ ونرى أن قامة الحدود من اختصاص القضاء الملتزم بالشريعة
دون غيره..
وفي نظرنا أن الأصل أن «الإهدار في
حالة الحرب لا يشمل إلا المحاربين فعلا...»، وأن الأقوال التي بنيت على افتراض
وجود حالة حرب دائمة بين المسلمين وغيرهم قد فات أوانها، والقول بذلك غير صحيح
حاليا، ولا نقره إلا بالنسبة للمحاربين المقاتلين من الأعداء أثناء الحرب، أما
مجرد الانتساب إلى دولة معادية فلا يحرم الفرد من الحماية التي قررتها شريعتنا
لحقوق الإنسان، إلا إذا ثبت مشاركته في العدوان علينا، ومن باب أولى لا يعتبر
الأجنبي محاربا إذا كانت الدولة معاهدة للمسلمين وليست محاربة، وقد بيّنا أن جميع
دول العالم الموقعة على المواثيق الدولية «مثل ميثاق الأمم المتحدة وغيرها من
المعاهدات الجماعية» هي دول معاهدة ولا يصح وصفها بأنها دار حرب، ولا يجوز بالتالي
القول بعدم عصمة رعاياها أو حرمانهم من الحقوق الإنسانية التي قدستها شريعتنا
وتحرم كل عدوان عليها...
ومن باب أولى لا نقر ما ينسب لأبي
حنيفة من أن المسلم المقيم في بلد أجنبي ولم يهاجر لدار الإسلام يكون غير معصوم
بحجة أنها دار حرب، أو أن المسلم في أي بلد أجنبي لا عصمة لـه، بحجة أن كل بلد
سكانها غير مسلمين هي دار حرب دون أن تكون بينها وبين المسلمين حرب فعلية...
ورجائي من كل أخواني إذا كان عندهم
معرفة بأي قول يؤيد وجهة نظري، فإني في أشد الحاجة إليه.
نحن نؤكد رأينا بأننا نعارض ما
قاله فقيهنا وغيره بأن الإهدار معناه أن كل فرد لـه الحق في قتل المهدر دمه،
والاستيلاء على ماله دون أن يؤاخذ على ذلك شرعا ولا فقها، لأن الإهدار لا يكون إلا
بحكم قضائي شرعي صحيح...
ويزيد في خطورة هذا القول إن من
نسميهم (حربيين) في نظر البعض هم كل أهل دار الحرب، حتى أصبح من الشائع أن كلمة
حربي ترادف كلمة أجنبي، وأن صفة الحربي تنطبق على جميع من ينتسبون لبلد أجنبي.
والتحفظ الذي أصيغه ذو شقين:
1 ـ أن البلد الأجنبي لا يجوز أن
يوسف بأنه دار حرب إلا في حالة ما إذا كان في حالة حرب فعلية مع دار الإسلام، وفي
غير حالة الحرب أي حالة السلم تكون المعاملة بالمثل، وإذا كان هناك اتفاق أو عهد
فإننا نلتزم به طالما التزمته تلك الدولة...
2 ـ أنه حتى في نطاق من يحملون
جنسية بلد في حالة حرب معنا، يجب أن نفرق بين المحاربين فعلا «أو من يساندونهم»
وبين غيرهم الذين لا تنطبق عليهم صفة المحارب، على تفصيل طويل في هذا المضمار...
ثالثا: تعارض الانحياز لأهل الكتاب
دون غيرهم من الملل الأخرى:
إنني أذكر هؤلاء الذين يميزون بين
أهل الكتاب وغيرهم من الملل الأخرى وخاصة الآسيويين والأفارقة: بأن هناك تحالف بين
اليهود والنصارى ضدنا، بل إن اليهود اخترقوا بعض الكنائس النصرانية البروستانتية
والأرثوذكسية ويستغلونهم لتنفيذ خططهم المعادية للشعوب الإسلامية والإسلام ذاته...
مع ذلك فإن كثيرا من كتب الفقه
القديمة والحديثة تصر على إعطاء أهل الكتاب وحدهم الحق في أن يكونوا أهل الذمة أو
المستأمنين بحجة أنهم أصحاب أديان سماوية ويهملون غيرهم، ممن يصرون على وصفهم
وحدهم بأنها مشركين أو كفار مع أنهم يعرفون أن أديان اليهود والنصارى قد بدلت
وحرفت وأن هذا الموقف المعادي لغيرهم أعطى للمسيحيين وهيئاتهم التبشيرية
والصهيونيين الفرصة لكي يستقطبوا بعض الدول الآسيوية وإدخالهم ضمن التحالف المضاد
للإسلام لاستكمال محاصرة العالم الإسلامي من الشرق والجنوب بعد أن حاصرته أوروبا
وأميركا من الشمال والغرب...
وقد لاحظنا أن القاضي (عودة) في البند
(25) بعنوان «حرية الاعتقاد» أشار إلى المبدأ الأساسي بقوله «في أي بلد إسلامي
يستطيع غير المسلم أن يعلن عن دينه ومذهبه وعقيدته، وأن يباشر طقوسه الدينية، وأن
يقيم المعابد والمدارس لإقامة دينه ودراسته دون حرج عليه» ...
وكمثال لتأكيد هذا المبدأ قال:
«فلليهود في البلاد الإسلامية عقائدهم ومعابدهم، وهم يتعبدون علنا وبطريقة رسمية،
ولهم مدارسهم التي يعلمون فيها الدين الموسوي، ولهم أن يكتبوا ما يشاءون عن
عقيدتهم، وأن يقارنوا بينها وبين غيرها من العقائد ويفضلونها عليها في حدود النظام
العام والآداب والأخلاق الفاضلة» ...
«وكذلك حال المسيحيين مع اختلاف
مذاهبهم وتعددها، فلكل أصحاب مذهب كنائسهم ومدارسهم ويباشرون عباداتهم علنا،
ويعلمون عقائدهم في مدارسهم ويكتبون عما يعتقدون وينشرون ما ينشرون في البلاد
الإسلامية»..
وقد فهمنا من هذا النص أن الإشارة
إلى اليهود والنصارى هي مجرد ذكر أمثلة لتطبيقات مبدأ حرية العقيدة في شريعتنا وهو
مبدأ أساسي لجميع الديانات...
ولكن تعليق المجتهد العالم حجة
الإسلام والمسلمين المرحوم (إسماعيل الصدر) لم يقف عند هذا الحد، بل أضاف في
تعليقه رقم (9) على هذا البند قائلا: «ليس لمن لا يدين لأحد الأديان السماوية (يشير
بذلك لليهودية والنصرانية) السكنى في البلاد الإسلامية؛ لأنها أشبه ما تكون
بالجراثيم السامة، فإما أن يذهب سمها وذلك بتدينها بأحد الأديان السماوية أو تزال
من الوجود» ...
كما عاد لتأكيد ذلك في التعليق رقم
(10) على نفس(البند)....
ولقد بادرنا بنقد ما قاله السيد
الصدر في رأينا على هذا التعليق رقم (9) وكذلك في رأينا على التعليق رقم (10) حيث
قلنا ما يلي: (نعارض قولـه في تعليق رقم (10) ان هذه الحرية العقيدية ميزة لأهل
الكتاب دون غيرهم، ونعتقد أن هذا رأى شخصي لـه، ويؤيد رأينا ما تضمنه دستور
جمهورية إيران ذاتها في المادة الثالثة عشر من التسوية بين «الزرادشت» و«اليهود»
و«المسيحيين» في الحقوق واعتبارهم من الأقليات الدينية المعترف بها) ...
(إن احترام النظام العام والآداب
يكفي لمقاومة الانحرافات الشاذة مثل العرى والفسق وعبادة الأوثان، أو الأهداف
السياسية المعادية أو غير ذلك من الانحرافات التي تمارسها بعض الفرق وعادة تمولها
جهات أجنبية لتحطيم أخلاق الشباب أو تهديد وحدة المجتمع، وشغل بعض الطوائف ببعض
الطقوس الغريبة عن العمل الجدي والإنتاج) ...
وقد عاد الشهيد القاضي «عودة» في
البند (211) تحت عنوان «دار الإسلام» إلى تأكيد المبدأ الذي ذكره من قبل في البند (25)
الذي أشرنا إليه فقال إن الذميين (هم غير المسلمين الذين يلتزمون أحكام الإسلام
ويقيمون إقامة دائمة في دار الإسلام بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، فيصح أن
يكونوا مسيحيين، ويصح أن يكونوا يهودا، ويصح أن يكونوا مجوسا أو صابئة، أو عباد ما
استحسن أو مالا يستحسن أو ممن لا يدينون بدين) ...
لكن الإمام المجتهد (السيد الصدر)
أضاف التعليق رقم (330) ليؤكد رأيه السابق، بل ينسبه إلى الفقه الجعفري عموما وذلك
بقوله: (الرأي السائد بين فقهاء المذهب الجعفري هو اختصاص أخذ الجزية بأهل الكتاب
ولا يباح لغيرهم السكني في بلاد المسلمين ولو مع دفع الجزية) ...
وأضاف التعليق رقم (331) بقوله ما
يلي (الذميون الذين يؤخذ منهم الجزية هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وقد
اختلفت آراء المذهب الجعفري في المجوس، وعليه يصح أخذ الجزية منهم أو لا يصح ولا
يقرون على دينهم والمشهور كونهم من أهل الذمة، ويستندون في ذلك إلى الخبر المروي
عن الإمام أمير المؤمنين علي(ع) أنه كان لهم كتاب أحرقوه ونبي قتلوه) ...
وكذلك في التعليق رقم (335) (مرَّ
علينا قريبا أن غير الكتابي لا يكون ذميا وأن الكتابي إنّما يكون ذميا إذا التزم
بشرائط الذمة، وليس مجرد السكنى في بلاد المسلمين سببا لصيرورة الإنسان ذميا كما
مرت الإشارة إلى ذلك قريبا) ...
إن رأينا في البند (25) رأينا هو
الاعتراض على ما قاله السيد الصدر في التعليقين رقم 330 + 331) على البند رقم (211)
ونرفض قولـه بأن أهل الأديان الأخرى غير اليهود والنصارى لا يجوز إقامتهم في دار
الإسلام ونستند إلى ما قرره دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية بشأن
«الزرادشتيين»...
وفي رأينا على التعليق (332) على
البند (211) قلنا ما يلي (نؤيد قولـه بشأن المجوس، أما القول بأن غير المسلم (وغير
العربي) أي الأجنبي غير المواطن لا يحق لـه الإقامة في دار الإسلام إلا بصفة مؤقته
لا نوافق عليه؛ لأن مثل هذه المسائل يحكمها مبدأ المعاملة بالمثل وتنظمها
المعاهدات الدولية؛ ويجب التمييز بين المعاهد وغيره، فليس كل الأجانب محاربين كما
يفهم من قولـه) ...
فإذا كان هناك بلد أجنبي يسمح
لمواطنينا بالإقامة الدائمة، أو كانت هناك معاهدات أو أعراف دولية تبيح لغير
المواطنين الإقامة في دولة ما فلا نرى مانعا شرعيا من أن تسمح الدولة للأجانب
غير المسلمين بالإقامة الدائمة، كل ما هنالك أن للدولة في كل وقت أن تطرد الأجنبي
من بلادها إذا كان وجوده يسبب لها ضررا، فالأمر يرجع لمصلحة الدولة...
في اعتقادي أن ما قرره الفقه
بالنسبة لعقد الذمة والأمان يسري على علاقاتنا مع جميع الشعوب، وأن تخصيص أهل
الكتاب بأحكام معينة إنّما كانت؛ لأنهم كانوا يجاوروننا في المدينة، ومازالوا
يجاوروننا في كثير من بلادنا بسبب ما يقوم عليه الإسلام من تسامح...
وموقف الرسول صلى الله عليه وآله
من المشركين كان الحرب لمن يحاربونه، ولكنه كانت لـه أحلاف واتفاقات مع كل قبيلة
حسب موقفها، لا بحسب عقيدتها؛ لأن الكفر ملة واحدة من حيث العقيدة، وكل تمييز بين
الأمم أو بين الدول أو الأجانب بمختلف جنسياتهم يرجع لأسباب سياسية فقط...
إننا الآن نواجه عداء معلنا من أهل
الكتاب، ومع ذلك مازال بعضنا يميزهم عن غيرهم من اتباع الأديان الأخرى في أفريقيا
وآسيا، ويقيمون بيننا وبينهم حواجز عداء لا أساس لها وأول ضحية لذلك هم الأقليات
أو الأغلبيات المسلمة التي تعيش معهم، فبدلا من أن يكون دورهم الدعوة للإسلام نعرض
نحن عليهم العداء لمواطنيهم غير المسلمين، ويستغل ذلك الإمبرياليون، فيغذون
الحركات الانفصالية ويحركونها لعزل المسلمين من الشرق والجنوب، في الوقت الذي
يهاجمونهم من الشمال أو الغرب، وبذلك يتم حصارنا بأيدينا وأيديهم.. فاعتبروا.. (يا
أولي الأنصار).. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تعليقات
إرسال تعليق