* نقلا من مجلة الأزهر عدد ربيع الأول 1446هـ
كتبه:
أ.د. أحمد علي عبد الساتر، كلية الأداب – جامعة الوادي الجديد
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اختلف العلماء في تعريف مفهوم التخطيط الإنساني، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أولاً: عرف الدكتور فرناس عبدالباسط التخطيط الإنساني بأنه: "أسلوب عمل جماعي، يأخذ بالأسبابِ لمواجهة توقعات مستقبلية، أو يعتمد على منهج فكري عقدي يؤمن بالقدر ويتوكل على الله، ويسعى لتحقيق هدفٍ شرعي، هو عبادة الله وتعمير الكون"( فرناس عبدالباسط، "البناء، التخطيط: دراسة في مجال الإدارة الإسلامية وعلم الإدارة العامة"، ص 85.).
ثانياً: عرفه الدكتور حزام المطيري بأن التعريف السابق يلغي الدورَ الفردي في التخطيط؛ لهذا يذكر تعريفًا آخر أكثر عموما، فيقول: إنَّ التخطيط الإسلامي هو "التفكير والتدبر بشكل فردي وجماعي في أداء عمل مستقبلي مشروع، مع ربط ذلك بمشيئة الله تعالى ثم بذل الأسباب المشروعة في تَحقيقه، مع كامل التوكل والإيمان بالغيب فيما قضى الله وقدره على النتائج"( حزام بن ماطر المطيري، مرجع سابق، ص 76.).
هدية رب البشر إلى الإنسانية:
من أعظم الهدايا التي أهداها رب البشر إلى الإنسانية جمعاء أن أرسل إليهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان ميلاده فاتحة خير للبشرية كلها، إذ غيّر واجهة التاريخ. استبشر جده عبد المطلب بمولده، فأدخله الكعبة، وشكر الله تعالى ودعاه، وسمّاه محمدًا، رغم أن هذا الاسم لم يكن معروفًا عند العرب. حينما سئل عبد المطلب لماذا سمى المولود محمدًا، مع أن هذا الاسم غير معهود عند العرب، أجاب: "سميته محمدًا ليكون محمودًا في الأرض ومحمودًا في السماء." وختنه في اليوم السابع من ولادته. وقعت بعض الإرهاصات والمقدمات العظيمة التي دلت على قرب مولده صلى الله عليه وسلم، منها خروج نور من فرج أمه آمنة بنت وهب أضاء له قصور الشام، وقد روى ذلك ابن سعد رحمه الله. كما انطفأت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس الواقعة حول بحيرة ساوة، وذكر ذلك البيهقي رحمه الله.
عاشت شبه الجزيرة العربية قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلمات الشرك والجهل، حيث كان العرب يعبدون الأصنام والأوثان، معتقدين أنها تستطيع أن تجلب لهم المطر والخصوبة وتدفع عنهم الأذى، انتشرت هذه المعتقدات الخاطئة بين القبائل التي كانت تتناحر فيما بينها، مما أدى إلى انتشار الفواحش والظلم، فكانت الفتيات تُدفن حية خوفًا من العار، وكانت القمار والخمر منتشرة بشكل كبير، هذه الممارسات السيئة أدت إلى تدهور الأخلاق وانحطاط القيم، وجعلت المجتمع العربي مجتمعًا ضعيفًا ومتفرقًا، يسوده الجهل والتعصب.
بلغ الأمر ذروته عندما حاول أبرهة الحبشي هدم الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام الذي بناه سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، كان أبرهة يهدف إلى جعل كنيسة قليس في اليمن قبلة للعرب بدلًا من الكعبة، وذلك ليزعزع مكانة العرب ويضعف نفوذهم الديني والسياسي، ولكن الله تعالى دمر جيشه وأفشل مخططاته و وردت هذه القصة في القراَن الكريم، في سورة الفيل، فقال تعالى: أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ (1) أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِي تَضۡلِيلٖ (2) وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ (3) تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ (4) فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ (5). (سورة الفيل) كانت هذه المعجزة العظيمة دليلاً قاطعًا على قدرة الله عز وجل، وأنه لا قوة تعادل قوته.
لقد أثرت قصة أصحاب الفيل بشكل كبير في نفوس العرب، حيث زادت إيمانهم بالله تعالى، وتيقنوا من أن الكعبة المشرفة هي بيت الله الحرام الذي يحميه الله تعالى، كانت هذه القصة بمثابة مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أزالت الكثير من العوائق أمام دخول الإسلام إلى قلوب العرب، أصبحت هذه القصة مصدر إلهام للشعراء والأدباء المسلمين، الذين كتبوا عنها قصائد وأشعارًا تبين عظمة الله وقدرته، وتجسد رحمة الله وحمايته لعباده المؤمنين.
في ظل هذه الظروف الصعبة، جاء الإسلام ليغير حياة العرب تغييرًا جذريًا، فقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم برسالة التوحيد، داعيًا الناس إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة الأصنام، أرسى الإسلام مبادئ العدالة والمساواة، وأمر بالإحسان إلى الضعفاء والمحتاجين، وحرم وأد البنات، وشدد على ضرورة حفظ حقوق المرأة والاهتمام بها، كما حرم القمار والخمر، وفرض على المسلمين التحلي بالأخلاق الفاضلة والمعاملات الحسنة.
بدأت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، وواجهت معارضة شديدة من قريش، الذين كانوا يرون في الإسلام تهديدًا لمكانتهم ونفوذهم، لكن النبي لم يتراجع، بل استمر في دعوته، وازداد عدد المسلمين تدريجيًا، وبعد مرور ثلاثة عشر عامًا من الدعوة في مكة، هاجر النبي وصحبه إلى المدينة المنورة، حيث أسس الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، وتمكن الإسلام من الانتشار بسرعة بين القبائل العربية، وأصبح النبي محمد صلى الله عليه وسلم قائدًا سياسيًا وروحيًا، توحد العرب تحت راية الإسلام، وانتهت بينهم الصراعات والنزاعات القبلية، أصبحوا أمة قوية متماسكة، تعلي من شأن العدل والمساواة، وتنشر قيم التسامح والرحمة.
كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم نعمة عظيمة للعرب وللبشرية جمعاء. فقد أخرجهم من ظلمات الجهل والشرك إلى نور العلم والتوحيد، وحولهم من قبائل متناحرة إلى أمة واحدة، تنشر الخير والعدل في الأرض. وظلت قصة أصحاب الفيل تذكرهم دائمًا بقدرة الله تعالى، وحمايته لبيته الحرام، وتهيئتهم لاستقبال رسالة الإسلام الخالدة.
رسالة الإسلام العالمية: التخطيط الإنساني في نشر الدعوة:
تعد رسالة الإسلام العالمية من أعظم النماذج التي تبرز التخطيط الإنساني العميق في نشر الدعوة الإسلامية، انطلقت هذه الرسالة تحت قيادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتمكنت من الوصول إلى قلوب الناس في مختلف أرجاء العالم بفضل منهجها الإنساني الذي يرتكز على مبادئ العدل، والرحمة، والمساواة. كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم شاملة وعالمية، مستهدفة إصلاح حياة الأفراد والمجتمعات من خلال تحقيق التوازن بين الروحانية والقيم الإنسانية.
منهجية النبي في نشر الدعوة:
اعتمد النبي محمد صلى الله عليه وسلم على منهجية تخطيطية محكمة لنشر الدعوة الإسلامية، بدأ بدعوة الأفراد المقربين منه بشكل سري، وذلك لضمان استجابة إيجابية دون مواجهة مباشرة مع المجتمع المكي المعارض. قال الله تعالى: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" (الحجر: 94). بعد ثلاث سنوات، انتقل إلى الدعوة الجهرية، مخاطبًا القبائل والأفراد في مكة بحكمة وموعظة حسنة، محاولًا كسب قلوبهم من خلال الحوار والتفاهم، قال الله تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125).
بناء المجتمع الإسلامي في المدينة:
كانت الهجرة إلى المدينة المنورة نقطة تحول استراتيجية في نشر الدعوة الإسلامية. أسس النبي محمد صلى الله عليه وسلم مجتمعًا إسلاميًا متكاملًا قائمًا على العدالة والمساواة بين جميع أفراده في المدينة، وضع النبي صلى الله عليه وسلم دستورًا شاملًا ينظم العلاقات بين المسلمين واليهود والمشركين، معززًا بذلك قيم التعايش السلمي والاحترام المتبادل، فقد جاء في الحديث الشريف عن عبدالله بن عمرو(رضي الله عنهما) عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: المسلمُ من سَلِمَ المسلمونَ من لسانهِ ويدهِ، والمهاجرُ من هجر ما نهى اللهُ عنه. أخرجه البخاري (10)
الغزوات والدفاع عن الدعوة:
لم تكن الغزوات الإسلامية مجرد حملات عسكرية، بل كانت جزءًا من خطة دفاعية لحماية المجتمع الإسلامي وتأمين بيئة آمنة لنشر الدعوة.
كانت هذه الغزوات تهدف إلى كسر شوكة الأعداء الذين كانوا يهددون المسلمين، وفي نفس الوقت، كانت تعبيرًا عن التزام النبي وأصحابه بنشر العدالة والسلام في الأرض، قال الله تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة: 190).
المراسلات مع الملوك والقادة:
اتبع النبي محمد صلى الله عليه وسلم نهجًا إنسانيًا عالميًا في نشر الدعوة، من خلال إرسال رسائل إلى الملوك والقادة في مختلف أنحاء العالم، يدعوهم فيها إلى الإسلام، كانت هذه الرسائل تعكس رؤية النبي صلى الله عليه وسلم العالمية ونظرته الشاملة للبشرية، وأدت إلى فتح قنوات حوار جديدة مع شعوب مختلفة، مما ساهم في انتشار الإسلام بصورة سلمية وحضارية، فيما رواه بُرَيْدَة بن الحُصَيب الأَسْلَمِيّ -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمَّر أميرًا على جَيْش أو سَرِيَّة أَوْصَاه بتَقْوَى الله، ومَن معه مِن المسلمين خيرًا، فقال: "اغْزُوا بسم الله في سبيل الله، قاتِلُوا مَن كَفَر بالله، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدِروا ولا تُـمَثِّلُوا ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وإذا لَقِيتَ عَدُوَّك مِن المشركين فادْعُهم إلى ثلاث خِصال -أو خِلال-، فأيَّتُهُنَّ ما أجابوك فاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادْعُهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقْبَلْ منهم. ثم ادْعُهم إلى التَّحَوُّل مِن دارهم إلى دار المهاجرين، وأَخْبِرْهم أنهم إن فَعَلُوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أَبَوْا أن يَتَحَوَّلُوا منها فأَخْبِرْهم أنهم يكونون كأَعْرَاب المسلمين يَجْرِي عليهم حُكْمُ الله تعالى، ولا يكون لهم في الغَنِيمَة والفَيْء شيءٌ إلا أن يُجَاهِدُوا مع المسلمين، فإن هم أَبَوْا فاسْأَلْهم الجِزْيَةَ، فإن هم أجابوك فاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم، فإن هم أَبَوْا فاستَعِن بالله وقَاتِلْهم. وإذا حاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرادُوك أن تَجْعَلَ لهم ذِمَّةَ الله وذِمَّةَ نَبِيِّه، فلا تَجْعَلْ لهم ذِمَّةَ الله وذِمَّةَ نَبِيِّه، ولكن اجْعَلْ لهم ذِمَّتَك وذِمَّةَ أصحابك؛ فإنكم أن تُخْفِرُوا ذِمَمَكم وذِمَّةَ أصحابكم أَهْوَنُ مِن أن تُخْفِرُوا ذِمَّةَ الله وذِمَّةَ نَبِيِّه، وإذا حاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرادُوك أن تُنْزِلَهم على حُكْم الله فلا تُنْزِلْهم، ولكن أَنْزِلْهم على حُكْمِك، فإنك لا تَدْرِي أَتُصِيبُ فيهم حُكْمَ الله أم لا". (رواه الإمام مسلم)
التخطيط الإنساني في الفتوحات الإسلامية:
بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، استمر الخلفاء الراشدون في اتباع منهجه الإنساني في نشر الدعوة، فاعتمدوا على الفتوحات الإسلامية كوسيلة لنشر الإسلام، مع التركيز على تحقيق العدالة واحترام حقوق الإنسان في المناطق المفتوحة، كانت الفتوحات تهدف إلى تحرير الشعوب من الظلم والاستبداد، وتقديم نموذج للحكم الرشيد القائم على تعاليم الإسلام السمحة، قال الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء: 107).
تأثير رسالة الإسلام على المجتمعات:
أحدثت رسالة الإسلام العالمية تغييرًا جذريًا في المجتمعات التي دخلتها، حيث قدمت الإسلام كنظام شامل ينظم حياة الفرد والمجتمع، معززًا القيم الأخلاقية والإنسانية، وساهم الإسلام في بناء حضارات عظيمة، قامت على العلم والمعرفة، وشجعت على التقدم والازدهار في مختلف المجالات، كان التركيز على التعليم والبحث العلمي من أبرز ملامح الحضارة الإسلامية، مما أسهم في إثراء المعرفة الإنسانية، قال الله تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات: 13).
التخطيط في إدارة المجتمع الإسلامي:
عندما أسس النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي في المدينة، اعتمد على تخطيط دقيق لإدارة شؤون المسلمين وغير المسلمين، فعقد معاهدات مع القبائل اليهودية والمشركين، تضمن لهم حقوقهم وتلزمهم باحترام الدولة الإسلامية، حيث كانت هذه المعاهدات تعكس رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في بناء مجتمع متنوع ومترابط، يعتمد على التعاون والاحترام المتبادل.
الخاتمة:
مما سبق يتبين لنا أن رسالة الإسلام العالمية تحمل الأثر الدائم على المجتمعات البشرية، من خلال التركيز على القيم الإنسانية الشاملة، حيث استطاع الإسلام أن يقدم نموذجًا حضاريًا فريدًا يتجاوز الزمان والمكان، وتستمر هذه الرسالة في إلهام الأفراد والمجتمعات للسعي نحو تحقيق العدالة، والسلام، والتقدم، فيما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. (رواه البخاري في الأدب المفرد وأحمد والبيهقي). وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد النبي العربي الأمين وعلى اَله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
تعليقات
إرسال تعليق