كتبه:
أ.د/ أحمد علي عبد الساتر كلية الأداب – جامعة الوادي الجديد
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى اَله وصحبه أجمعين.
حقيقة التوكل على الله هي أن يسلم الإنسان أمره إلى الله تسليماً كاملاً مع الأخذ بالأسباب أخذاً كاملاً دون تقصير أو إهمال، و هذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عمرو بن أمية عن النبي صلى الله عليه و سلم أن رجُلٌ قال لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ ؟ قال : ( اعقِلْها وتوكَّلْ ) ،الراوي : عمرو بن أمية | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج صحيح ابن حبان | الصفحة أو الرقم : 731 | خلاصة حكم المحدث : حسن.
مفهوم التوكل على الله:
معنى التوكل في اللغة:
وكلت أمري إليه؛ أي: ألجأته إليه واعتمدتُ عليه، وسلمته أمري، والوَكِل: هو الذي يكل أمره إلى غيره، (النهاية في غريب الحديث والأثر 5 /221، لسان العرب 11/ 734).
التوكل على الله لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب:
قد يظن الكثيرون أن التوكل على الله يعني أن يركن الإنسان إلى الاستعانة بغيره و الإعتماد على الاًخرين، و لكن هذا عارً عن الصحة، حيث أن التوكل على الله لا يتعارض مع الأخذ بالإسباب لأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. ولذلك كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه و ارضاه يقول: إنى لأرى الرجل فيعجبنى، فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عينى. أما أن يعتمد الإنسان على غيره في كل شي و يدعي أنه يتوكل على الله، و أنه فوض أمره على الله فهذا هو التواكل بعينه لا التوكل.
وفي هذا الصدد يقول الله عز و جل ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 2-3]، تعني الاًيه الكريمة أن الذي يتوكل على الله يكفيه في كل شي، وفي ذلك قال السعدي في تفسيره (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك (فَهُوَ حَسْبُهُ)أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به. فالتوكل على الله هنا يعني الثقة الكاملة به والاعتماد عليه بعد اتخاذ الأسباب المشروعة، ومنها السعي لكسب الرزق. فعندما يثق الإنسان بالله ويفوض أمره إليه بعد الأخذ بالأسباب، فإن الله يكفيه همه في كل أموره، لأنه هو القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، والذي لا يعجزه أمر.
ثمرات التوكل على الله:
إن للتوكل على الله ثمرات عدًة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
• الرضا بالقضاء والقدر:
نجد أن المتوكل على الله دائماً يكون راضياً بقضاء الله و قدره، فلا يسخط على قضاء الله وقدره ولا يتزمر ولا ينظر إلا ما في يد الاَخرين، واضعاً نصب عينيه قول اسعد الخلق صلى الله عليه وسلم فيما رواه يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أنه قال حَدَّثَنَا يَحْيَى أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ أَوْ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
• اليقين بنصر الله:
يجب على الإنسان المسلم أن يوقن تماماً أن رزقه سوف يأتيه و أن الله سبحانه و تعالى لا يظلم مثقال ذرة و أن الله سبحانه وتعالى قسم الرزق على عباده بالتساوي، حيث أن الرزق ليس مالاً فقط و لا بنين فقط ولا بنات فقط و لا منصب فقط و لا صحة فقط، وفي ذلك يقول المولى عز و جل {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى 49-50].
و يقول الله سبحانه و تعالى {وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا}[ الكهف 49]. و يقول عز وجل في الحديث القدسي (يا عبادي ! إِنَّي حرمتُ الظلمَ على نفسي ، وجعلْتُهُ مُحَرَّمًا بينَكم فلا تَظَّالموا ، يا عبادي ! كلُّكُم ضالٌّ إِلَّا مَنْ هديتُهُ ، فاستهْدُوني أَهْدِكم ، يا عبادي ! كلُّكُم جائِعٌ إِلَّا مَنْ أطعمْتُهُ ، فاستطعِموني أُطْعِمْكُمْ ، يا عبادي ! كلُّكم عارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ ، فاستكسوني أَكْسُكُمْ ، يا عبادي ! إِنكُمْ تُخْطِئونَ بالليلِ والنهارِ وأنا أغفِرُ الذنوبَ جميعًا ، فاستغفروني أغفرْ لكم ، يا عبادي ! إِنَّكم لن تبلغوا ضُري فتَضُرُّوني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكُم ، وإِنسَكُم وجنَّكم ، كانوا على أتقَى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زادَ ذلِكَ فِي مُلْكِي شيئًا ، يا عبادي ! لوْ أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم ، وإِنسَكم وجنَّكم ، كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نقَصَ ذلكَ مِنْ مُلْكِي شيئًا ، يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم ، وإِنسَكُم وجِنَّكُم ، قاموا في صعيدٍ واحدٍ ، فسألوني فأعطيْتُ كلَّ إِنسانٍ مسألَتَهُ ، ما نقَصَ ذلِكَ مِمَّا عندي ، إِلَّا كما يَنقُصُ الْمِخْيِطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ ، يا عبادي ! إِنَّما هي أعمالُكم أُحْصيها لَكُم ؛ ثُمَّ أُوَفِّيكُم إيَّاها ، فَمَنْ وجدَ خيرًا فلْيَحْمَدِ اللهَ ، ومَنْ وجدَ غيرَ ذلِكَ فلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. الراوي : أبو ذر الغفاري | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم : 4345 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.
• التوازن النفسي والاجتماعي
من ثمرات التوكل على الله الاتزان النفسي و الإجتماعي حيث يكون الإنسان سوياً، غير مضطرب نفسياً، فلا يشغله التفكير في مستقبله ولا مستقبل أولاده عن العباده، لأنه يعلم علم اليقين أن رزقه بيد الله، ولن يأخده أحد غيره، فيطمأن نفسياً، وفي ذلك يقول الحسن البصري - رحمه الله - حينما سؤل: ما سر زهدك فى الدنيا ؟ فقال: علمت بأن رزقى لن يأخذه غيرى فاطمأن قلبى له ، وعلمت بأن عملى لا يقوم به غيرى فاشتغلت به ، وعلمت أن الله مطلع على فاستحييت أن أقابله على معصية ، وعلمت أن الموت ينتظرنى فأعددت الزاد للقاء الله. حيث إن الرزق بيد الله وحده، وهو سبحانه وتعالى القادر على أن يمنح الإنسان من فضله دون حساب. وعندما يلتزم الإنسان بالتوكل الحقيقي على الله، مع السعي والاجتهاد، فإنه سيجد الرزق يأتيه من حيث لا يحتسب. وهذا لا يعني التواكل والاعتماد على الله دون بذل جهد، بل يعني السعي والعمل والتوكل على الله بعد ذلك، مع اليقين بأن الله هو الرازق والمعين.
التوكل الحقيقي على الله يمنح الإنسان السكينة والراحة النفسية، لأنه يزيل عنه القلق والخوف من المستقبل. فالتوكل على الله يبعث في النفس الأمل والاطمئنان، ويجعل الإنسان واثقاً بأن الله لن يخذله إذا اعتمد عليه بصدق. وهذا التوكل ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو شعور عميق وثقة راسخة بالله، وهو ما يعزز الإيمان ويزيد من قوة العلاقة بين العبد وربه. و قد قال الله تعالى في سورة النحل: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [النحل: 22]. هذه الآية تحمل في طياتها معاني عظيمة عن الرزق والتوكل. فهي تؤكد أن الرزق مقدر من الله ومحفوظ عنده، وأن الإنسان عليه أن يسعى ويبذل الجهد دون أن يترك مجالاً للقلق والخوف من الفقر أو العوز. فالسماء هنا رمز لقدرة الله وعظمته في تدبير الأمور، والرزق فيها مضمون بحكمة الله وعدله.
أما عن التوازن الإجتماعي، فحدث ولا حرج، حيث أن المتوكل على الله حق التوكل يتمتع بالتوازن الإجتماعي و الثبات الإنفعالي، و يبدو ذلك جلياَ واضحاً في تعامله مع أقرانه و أقاربه و ذويه، و في ذلك يقول اسعد الخلق صلى الله عليه وسلم فيما رواه الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه "المؤمن القوي، خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احْرِصْ على ما ينفعك، واسْتَعِنْ بالله ولا تَعْجِزْ، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قَدَرُ الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان. (حديث صحيح)- (رواه مسلم).
التوكل على الله يعزز الإيجابية في حياة الإنسان، ويجعله ينظر إلى المستقبل بأمل وتفاؤل. فالمؤمن المتوكل على ربه يعلم أن الله لا ينسى عبده، وأنه سيجد مخرجاً لكل ضيق. وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 6]. هذه الآية تزرع في النفوس الأمل بأن الفرج قريب مهما اشتد الكرب، وأن الله سيبدل الحال إلى أفضل منه. و في الحياة اليومية، يمكننا تطبيق مفهوم التوكل على الله في أعمالنا ودراستنا وعلاقاتنا. فعندما نبدأ يومنا بالتوكل على الله، نطلب منه التوفيق والسداد، نجد أن الأمور تسير بيسر وبركة. التوكل هنا ليس دعوة للتواكل، بل هو دعوة لبذل الجهد مع الثقة بأن الله سيبارك في هذا الجهد ويجعل له ثمرة طيبة.
خاتمة:
في الحديث الشريف المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: "لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا" (رواه الإمام أحمد والترمذي). هذا الحديث يتناول مسألة الرزق والتوكل على الله تعالى، مبيناً العلاقة الوثيقة بينهما. فقد جاء في القرآن الكريم ما يؤكد هذا المعنى، حيث قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 2-3]. هذه الآيات، جنبًا إلى جنب مع الحديث النبوي الشريف، تؤكد المعنى الجميل الذي أشار إليه النبي ﷺ عندما قال لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه: "لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم". في هذه الجملة النبوية الشريفة، يوجد إشارة إلى الطمأنينة والسكينة لكل قلوب البشر، تدعوهم إلى التوكل على الله بصدق ويقين، وتؤكد لهم أن هذا التوكل هو نهاية لكل آلامهم وأحزانهم، وتفريج لكل كروبهم، وكفاية لكل ما يختلج في صدورهم من شك أو ريبة في مسألة الرزق.
في سياق الحديث الشريف الذي يربط بين التوكل على الله ورزقه لعباده، نجد أن مفهوم التوكل لا يعني القعود عن العمل والاعتماد الكلي على الغيب دون سعي. بل هو الجمع بين اتخاذ الأسباب المادية والعمل الجاد، مع الثقة الكاملة بأن الله هو المقدر والرازق. إن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى عبده يسعى ويجتهد في طلب الرزق، ولكنه في نفس الوقت يطمئن قلبه بأن الرزق مكتوب ومقدر. من جهة أخرى، نرى أن التوكل على الله يتجاوز مجرد الرزق المادي ليشمل كل جوانب الحياة. فعندما يتوكل الإنسان على الله في كل أموره، يجد البركة واليسر في حياته. وقد قال النبي ﷺ: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة". الراوي : زيد بن ثابت | المحدث : الألباني | المصدر : السلسلة الصحيحة | الصفحة أو الرقم : 950 | خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد رجاله ثقات. فهذا الحديث يوضح أن التوكل على الله يجعل الإنسان غنياً بما في قلبه من إيمان واطمئنان، ويجعل أموره ميسرة، ويأتيه الرزق من حيث لا يحتسب.
ختاماً، يمكننا القول أن التوكل على الله هو منهج حياة للمؤمن، يجمع بين العمل الدؤوب والإيمان العميق بقدرة الله ورحمته. هذا التوكل يمنح الإنسان قوة داخلية تدفعه لمواجهة تحديات الحياة بروح إيجابية واثقة، ويجعل قلبه مطمئناً بأن ما قدره الله له هو خير، وأن الرزق سيأتيه في الوقت المناسب وبالطريقة التي كتبها الله له.
و صلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي الأمين و على اَله و صحبه وسلم.
كتبه:
أ.د/ أحمد علي عبد الساتر كلية الأداب – جامعة الوادي الجديد
تعليقات
إرسال تعليق