بقلم أ.د. عزة شبل محمد
أستاذة اللغويات بكلية اللغات والترجمة في جامعة أوساكا باليابان
وُجِدتْ مُلقاة على الأرض.
جثة هامدة، لا تحرك ساكنًا بعد أن كُسِرتْ ساقها. ازدحام شديد، وأصوات الصراخ
تعلو، تنحني امرأة مسنة نحوها تحاول أن تتحسسها ببطء؛ لعلها ما زالت على قيد
الحياة. لكن دون جدوى، صرخ فيها البعض قائلاً لا تقتربي منها، حتى تصل سيارة
الإسعاف، فربما يزداد الأمر سوءًا. الصغار يلتفون حولها هنا وهناك. تعلو وجوههم
الدهشة، فقد كانت تلك الجميلة واقفة بينهم منذ قليل. ما الذي حدث فجأة؟ الجميع
يتساءل، الصياح يعم المكان، والمسكينة جثة هامدة ملقاه على الأرض غارقة في بركة من
اللون الوردي.
تجمدت مكاني، من هول
المفاجأة ، كل شىء حدث في لمح البصر، على الرغم من إمساكي يدها بقوة، فلم أستطع أن
أرى ما الذي حدث. هرب الجاني، بعد أن صدمها بسيارته، ليس في قلبه ذرة من شفقة أو
ندم على جريمته الشنعاء التي راحت ضحيتها ابنتي الجميلة، لم يتوقف ليرى ما الذي
حدث لها، وانطلق مسرعًا.
ماذا
فعلت هذه المسكينة حتى يُنهي حياتها. صدمها وهرب بسيارته الفارهة، لم أكد أتبين
ملامح وجهه، فقد كانت سيارته تسابق الرياح، ولكن الأدخنة المتطايرة منها ما زالت تخنق
المارة. لم أستطع تمييز سوى بعض أصوات الضحكات،
ولم أستطع اللحاق بهم، جمَّدت الصدمة ساقي، واقتلع الرعب قلبي، فشلني عن الحركة.
ابنتي الجميلة، في مقتبل العمر، لم تتأخر يومًا عن مساعدة أحد، حبي، وحلمي، انهارت
قواي. الآن انتهي كل شيء. انتهت حياتي وأحلامي.
كدت أغيب عن الوعي، وأنا
أتأملها ملقاةً بجانبي على الأرض، لا أستطيع أن أمد يدي لإنقاذها. الآن صمتت بعد
أن كانت ضحكاتها تسابق الطيور، وعبيرها يملأ
المكان. زهرة شبابي، لم نفترق أبدًا، بل كنا ثلاثة إخوة، نعيش معًا في سعادة، نلهو
طوال النهار، وفي المساء نظل مستيقظين، نحكى قصص الأطفال والمساكين والعشاق
العابرين.
تنبهت فجأة، تذكرت أختها
الصغرى التي كنت أمسك بيديها، ابنتي صاحبة الوجه المستدير والبشرة الذهبية، فإذا
بها قد تسمرت في مكانها، أغلقت عينيها، وغطى وجهها الفزع، لم يستطع قلبها الحنون أن
يرى أختها الجميلة ملقاة جثة هامدة لا تتحرك.
تقدم نحونا أحد المارة لمساعدتنا،
لكن دون جدوى. الأصوات تعلو، والضجيج
يزداد من حولنا، والفوضى تعم المكان، ولا أحد يستطيع فعل أي شىء. أمسك الشاب هاتفه بيد مرتعشة، واستدعى
سيارة الإسعاف، التي كانت على مقربة من مكان الحادث.
يداي ترتعشان، قلبي
يرتجف، يعلو صوت شاب في مقتبل العمر بالنحيب، وردي البشرة، كستنائي الشعر، التصق
وجهه بالتراب، ممسكًا بيدها، لم أستطع تبين ملامحه، سقط بجوارها، وقد أجهش
بالبكاء، انهارت أحلامه في الزواج منها. اقْتُلعت حياته أمام عينيه. تذكرتُ يومًا جارتنا،
بعد أن أكلت بعضًا من فواكهنا الرطبة، وحصلت على قنينة عطر ثمينة. استدارت عيونها السوداء
نحونا، قائلة لي: "بناتك رائعات الجمال مثلك، رائحتهن فواحة". عندئذ خفق
قلبي، وشعرت بالخوف عليهن. وعلى الرغم من فقرنا، فقد كان يبدو عليهن أمارات الحسن
والبهاء، لم تكن ابنتي تملك إلا ثوبًا ورديًّا واحدًا، لكن حياءها كان يكسوها، فكانت
رقتها تخطف الأنظار.
يا للمسكينة ترقد الآن،
ولا أحد يستطيع مساعدتها، تأخرت عربة الإسعاف، مرت الدقائق ساعات وساعات، أفسح
الناس بصعوبة الطريق عندما رأوا السيارة قادمة. هرول
شخصان يرتديان ملابس بيضاء نحو الجثة الملقاة على
الأرض. تعلو الأصوات بالدعاء. وما زال عقلي يفكر في ذلك المجرم وشركائه، صدموا ابنتي
بلا رحمة ولا شفقة، كسروا ساقها. الجبناء، وفروا هاربين.
غبت عن الوعي لبرهة، ولم أستيقظ سوى في صباح
اليوم التالي، فتحت عينيّ، فوجدت ابنتي الحبيبة بجانبي كعادتها، وقد نجح الشابان في
إنقاذها، وعمل دعامة لساقها، ولم أشعر إلا بوخذ إبرة في ساقي النحيلة لعاشقين جديدين،
مستلقيين على جذعي، مستظلين بأوراقي، يرسمان قلبًا، ينقشان قصة حبهما على جداري.
قصة رائعة
ردحذف