التخطي إلى المحتوى الرئيسي

د. عزة شبل محمد تكتب أحدث قصصها القصيرة: حادثة مروعة!


 

بقلم أ.د. عزة شبل محمد

أستاذة اللغويات بكلية اللغات والترجمة في جامعة أوساكا باليابان

وُجِدتْ مُلقاة على الأرض. جثة هامدة، لا تحرك ساكنًا بعد أن كُسِرتْ ساقها. ازدحام شديد، وأصوات الصراخ تعلو، تنحني امرأة مسنة نحوها تحاول أن تتحسسها ببطء؛ لعلها ما زالت على قيد الحياة. لكن دون جدوى، صرخ فيها البعض قائلاً لا تقتربي منها، حتى تصل سيارة الإسعاف، فربما يزداد الأمر سوءًا. الصغار يلتفون حولها هنا وهناك. تعلو وجوههم الدهشة، فقد كانت تلك الجميلة واقفة بينهم منذ قليل. ما الذي حدث فجأة؟ الجميع يتساءل، الصياح يعم المكان، والمسكينة جثة هامدة ملقاه على الأرض غارقة في بركة من اللون الوردي.

تجمدت مكاني، من هول المفاجأة ، كل شىء حدث في لمح البصر، على الرغم من إمساكي يدها بقوة، فلم أستطع أن أرى ما الذي حدث. هرب الجاني، بعد أن صدمها بسيارته، ليس في قلبه ذرة من شفقة أو ندم على جريمته الشنعاء التي راحت ضحيتها ابنتي الجميلة، لم يتوقف ليرى ما الذي حدث لها، وانطلق مسرعًا.

        ماذا فعلت هذه المسكينة حتى يُنهي حياتها. صدمها وهرب بسيارته الفارهة، لم أكد أتبين ملامح وجهه، فقد كانت سيارته تسابق الرياح، ولكن الأدخنة المتطايرة منها ما زالت تخنق المارة. لم أستطع  تمييز سوى بعض أصوات الضحكات، ولم أستطع اللحاق بهم، جمَّدت الصدمة ساقي، واقتلع الرعب قلبي، فشلني عن الحركة. ابنتي الجميلة، في مقتبل العمر، لم تتأخر يومًا عن مساعدة أحد، حبي، وحلمي، انهارت قواي. الآن انتهي كل شيء. انتهت حياتي وأحلامي.  

كدت أغيب عن الوعي، وأنا أتأملها ملقاةً بجانبي على الأرض، لا أستطيع أن أمد يدي لإنقاذها. الآن صمتت بعد أن كانت ضحكاتها تسابق الطيور، وعبيرها  يملأ المكان. زهرة شبابي، لم نفترق أبدًا، بل كنا ثلاثة إخوة، نعيش معًا في سعادة، نلهو طوال النهار، وفي المساء نظل مستيقظين، نحكى قصص الأطفال والمساكين والعشاق العابرين.

تنبهت فجأة، تذكرت أختها الصغرى التي كنت أمسك بيديها، ابنتي صاحبة الوجه المستدير والبشرة الذهبية، فإذا بها قد تسمرت في مكانها، أغلقت عينيها، وغطى وجهها الفزع، لم يستطع قلبها الحنون أن يرى أختها الجميلة ملقاة جثة هامدة لا تتحرك.

تقدم نحونا أحد المارة لمساعدتنا، لكن دون جدوى. الأصوات تعلو، والضجيج  يزداد من حولنا، والفوضى تعم المكان، ولا أحد يستطيع فعل أي شىء. أمسك الشاب هاتفه بيد مرتعشة، واستدعى سيارة الإسعاف، التي كانت على مقربة من مكان الحادث.

يداي ترتعشان، قلبي يرتجف، يعلو صوت شاب في مقتبل العمر بالنحيب، وردي البشرة، كستنائي الشعر، التصق وجهه بالتراب، ممسكًا بيدها، لم أستطع تبين ملامحه، سقط بجوارها، وقد أجهش بالبكاء، انهارت أحلامه في الزواج منها. اقْتُلعت حياته أمام عينيه. تذكرتُ يومًا جارتنا، بعد أن أكلت بعضًا من فواكهنا الرطبة، وحصلت على قنينة عطر ثمينة. استدارت عيونها السوداء نحونا، قائلة لي: "بناتك رائعات الجمال مثلك، رائحتهن فواحة". عندئذ خفق قلبي، وشعرت بالخوف عليهن. وعلى الرغم من فقرنا، فقد كان يبدو عليهن أمارات الحسن والبهاء، لم تكن ابنتي تملك إلا ثوبًا ورديًّا واحدًا، لكن حياءها كان يكسوها، فكانت رقتها تخطف الأنظار.

يا للمسكينة ترقد الآن، ولا أحد يستطيع مساعدتها، تأخرت عربة الإسعاف، مرت الدقائق ساعات وساعات، أفسح الناس بصعوبة الطريق عندما رأوا السيارة قادمة. هرول شخصان يرتديان ملابس بيضاء نحو الجثة الملقاة على الأرض. تعلو الأصوات بالدعاء. وما زال عقلي يفكر في ذلك المجرم وشركائه، صدموا ابنتي بلا رحمة ولا شفقة، كسروا ساقها. الجبناء، وفروا هاربين.

 غبت عن الوعي لبرهة، ولم أستيقظ سوى في صباح اليوم التالي، فتحت عينيّ، فوجدت ابنتي الحبيبة بجانبي كعادتها، وقد نجح الشابان في إنقاذها، وعمل دعامة لساقها، ولم أشعر إلا بوخذ إبرة في ساقي النحيلة لعاشقين جديدين، مستلقيين على جذعي، مستظلين بأوراقي، يرسمان قلبًا، ينقشان قصة حبهما على جداري.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بالصور.. اليوم التعريفي لصيدلة "مصر للعلوم والتكنولوجيا"

  عقدت كلية الصيدلة والتصنيع الدوائي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا فعاليات (اليوم التعريفي للطلاب الجدد orientation day) تحت رعاية  خالد الطوخي رئيس مجلس الأمناء والدكتور نهاد المحبوب القائم بعمل رئيس الجامعة والدكتورة رحاب عبدالمنعم عميد كلية العلوم الصيدلية والتصنيع الدوائي. وشهدت الفعاليات حضور  الدكتورة مها عيسي وكيل الكلية لشئون الدراسات العليا والبحوث والدكتورة ولاء حمادة وكيلة الكلية لشئون التعليم والطلاب ومدير وحدة ضمان الجودة بالكلية؛ وحضور رؤساء الأقسام بالكلية وأعضاء من هيئة التدريس والهيئة المعاونة، والدكتور الحسيني الجندي رئيس قسم العقاقير ومقرر لجنة رعاية الطلاب، والدكتورة ندى لبيب؛ عميد المكتبات ومستشار رئيس مجلس الأمناء. وقام أعضاء الاتحاد العام لطلاب كلية العلوم الصيدلانية والتصنيع الدوائي بعرض الأنشطة المختلفة التي يقوم بها الاتحاد واللجان المختلفة، فضلا عن  تكريم الأوائل من الطلاب بكل دفعة بلائحة pharm D ولائحة pharm D clinical بجائزة شهادة  الدكتورة سعاد كفافي للتفوق العلمي، وأخيرا تكريم اللجنة المنظمة لفعاليات الاحتفالية. يذكر أن الفعاليات ...

شهادة لا يجب أن تُؤجل

بقلم/ فاطمة صابر ردًا على منشور قديم نُشر عن د. أنس عطية، وما زال أثره حيًا، أحب أقول: نعم، الكلمات التي كُتبت آنذاك عن د. أنس، أنا لم أقرأها فقط، بل عشتها. في سنة واحدة فقط، في مقرر واحد، شعرت كأنني أمام شخصية أب… رغم قلقي وخوفي في البداية، إلا أن تعامله العميق وأسلوبه الطيب احتواني، فشعرت بالأمان… الأمان الذي لا يُمثَّل، بل يُعاش. ولكن في زحمة الكلمات، هناك اسم آخر لا بد أن يُذكر، لا بد أن يُنصف، لا بد أن يُقدّر. اسم حين يُقال، ينحني له القلب قبل القلم… د. حنان شكري. قد أبدو لكم فتاة صامتة، لا تُكثر الكلام، وهذا صحيح… لكنني لست صامتة داخليًا. عقلي يعمل أكثر مما يظهر، ومشاعري تنبض من عمق لا يعرفه إلا القليل، ومن هذا العمق أكتب اليوم. د. حنان شكري ليست مجرد وكيلة لكلية، ولا حتى مجرد دكتورة… هي نموذج نادر من البشر، إنسانة تؤدي عملها كأنها تؤدي عبادة، وكأن التعليم أمانة كُتبت في رقبتها، لا تفرّط فيها مهما كانت التكاليف. رأيت فيها مثالًا لإنسان لا يسعى للمنصب، بل يسعى للصدق. لا تؤدي واجبها، بل تعيشه. لا تنتظر التقدير، بل تزرعه في الآخرين. هي لا تعمل كإدارية، بل كقائدة حقيقية، وكأنها تظن أ...

رأس المال الاجتماعي للمرأة

بقلم/ دلال عبد الحفيظ تحاول العديد من منظمات المجتمع المدني تبني إستراتيجيات تنموية من شأنها القيام بدور بارز في التحول من أهداف تحسين الحياة النوعية للنساء والحرفيات إلى تعزيز الميزة التنافسية والصورة الذهنية لمنظمات الأعمال والمستثمرين ورجال الأعمال من جماعات المصالح ذات الشراكات المتبادلة مع الشركات والمؤسسات المعنية.  لذا، كان لزامًا اتجاه مؤسسات الأعمال نحو تدريب المنتجين على مضاعفة الصادرات، وزيادة عدد ونوع عملاء المنظمة، والانفتاح الواسع علي الأسواق العالمية المتطورة، وتعزيز شراكات العمل، ومن ثم تجسيد الارتباط بين قوة رأس المال الاجتماعي من جانب وبين تنمية شبكة الأعمال الدولية، وترويج العلامة التجارية لمنظمات المجتمع المدني، وتنمية رأس المال الإنساني لصغار المنتجين. ونستعرض في السطور الآتية بعض النماذج التطبيقية الناجحة لاتباع مثل هذه المبادرات الجامعة بين المزيجين النظري والعملي؛  فبالتطبيق علي مؤسسة CHOL-CHOL التشيلية، جاءت مبادرة توظيف النساء الحرفيات في إنتاج منسوجات عالية الجودة بالأنماط التقليدية والشعبية القديمة لمواطني مدينة"مابوتشو"، وارتكزت الإستراتيجية على ج...