بقلم/ د. نجلاء الورداني
لم تكن قصة الزميل الأستاذ عبد الرحمن هاشم "البيت الموحش" https://alalamalyoumnews.blogspot.com/2025/08/blog-post_31.html مجرد بوحٍ شعوري عابر، بل أقرب إلى وثيقة مصغّرة تكشف عن جانب خفي من ثقافتنا المجتمعية، حيث يتحول الغياب بحثًا عن الرزق إلى جرحٍ اجتماعي عميق، وتبرز الأدعية الشعبية بوصفها ميراثًا فلكلوريًا يتكئ على مخيال ديني–غيبـي.
القصة تُظهر بوضوح كيف يوظّف المجتمع آليات التكيف النفسي مع القلق والفقد، فيلتقي التراث الشعبي بالحاجات الإنسانية المعاصرة. فهي تحكي معاناة أسرية شائعة في مجتمعاتنا العربية: الزوج يغادر مضطرًا إلى السفر، بحثًا عن لقمة العيش داخل الوطن أو خارجه، بينما تتحمل الزوجة العبء الأكبر من تربية الأبناء وإدارة شؤون الحياة اليومية. هنا يتجلى الخلل البنيوي في توزيع الأدوار، الناتج عن ظروف اقتصادية واجتماعية ضاغطة، لتتحول القضية إلى ما يمكن تسميته: "الغياب والاغتراب الداخلي".
غير أن القصة لا تقف عند حدود الغياب، بل ترصد المرأة كفاعل اجتماعي رئيسي. فهي لا تستسلم للوحدة، بل تبحث عن حلول عملية: بالاتصال، بالسؤال، باللجوء إلى الأقارب. لكن رغم هذا التمكين الجزئي لدورها في مواجهة الأزمات، يبقى أفقها مسدودًا إلا عبر الموروث الروحي–الديني.
ويبرز الكاتب في القصة حضور الشخصيات الرمزية–الوسيطية في المجتمعات التقليدية، مثل القريب "الزاهد" المعروف بالصلاح، الذي يلعب دور الموجّه الروحي والاجتماعي عند الأزمات. وهنا ينعكس البعد الفلكلوري في سلوكنا الجمعي: الرقى الشعبية والأدعية المسجوعة التي تمزج بين ألفاظ قرآنية وصيغ توسّل شعبية، موجهة أحيانًا إلى قوى غيبية كالجن والشياطين وسكان الخراب.
هذا المزج بين الدعاء المشروع والتعاويذ الشعبية يكشف البنية العميقة للمخيال العربي–الإسلامي، الذي ينظر إلى القوى غير المرئية باعتبارها وسطاء فاعلين في حياة الإنسان. حتى الطقوس البسيطة كالتلاوة على سجادة الصلاة لم تكن مجرد دعاء، بل أقرب إلى ممارسة رمزية–سحرية تمنح المرأة راحة نفسية، رغم عدم إحداثها أثرًا ماديًا مباشرًا. إنها الوظيفة النفسية–التطهيرية للفلكلور، كما تسميها الأنثروبولوجيا.
وفي النهاية، تطرح القصة دلالات نقدية مهمة: فهي تعكس التوتر بين العقلانية والروحانية، بين البحث العملي عن حلول وبين العودة في لحظة الأزمة إلى التوسل الماورائي. كما تكشف مركزية الرجل/الزوج في بناء الأسرة، حيث لا يكتمل الخلاص إلا بعودته. والأهم، أنها تبرهن كيف يُعاد إنتاج التراث الروحاني في المجتمع المعاصر، حيث تظل الأدعية والتعاويذ الشعبية وسيلة أساسية لمواجهة الأزمات.
هكذا تحولت القصة من نص وجداني إلى مرآة لثقافة مجتمعية، تكشف عن عمق العلاقة بين الغياب، الفقد، والوجدان الشعبي الذي يجد في الدعاء والطقوس الروحانية سبيلًا لتسكين الجراح.
تعليقات
إرسال تعليق