بقلم الأديبة الناقدة/ د. نجلاء الورداني
ليست كل الحكايات مجرد سرد شخصي عن الحب أو الفقد، فبعضها يتحول إلى شهادة حيّة عن عصر مضى ما زلنا نعاني من آثاره. وفي نص «شهادة قبل أن أموت»، انظر الرابط: https://alalamalyoumnews.blogspot.com/2024/12/blog-post_15.html؛ نحن أمام تجربة تتجاوز حدود الاعتراف الفردي، لتصبح وثيقة اجتماعية وسياسية، تكشف ملامح جيل بأكمله. القصة تحكي حياة امرأة عاشت الحب في الظل، وانكسرت تحت وطأة الأعراف والقهر الأسري، لكنها لم تفقد إنسانيتها ولا قدرتها على المقاومة. هنا، لا نتعامل مع نص عاطفي صرف، بل مع شهادة وجودية ترصد تقاطعات الحب والسياسة والمجتمع في حياة فردية تتحول إلى مرآة لزمن مضطرب.
بين السرد والذاكرة: لغة الرموز
ما يلفت في النص هو لغته البسيطة والمباشرة، لكنها محمّلة بالصور الحسية التي تتحول إلى رموز كثيفة. الورقة المطوية التي تخفيها البطلة ليست مجرد ورقة، [ناولني الورقة وهمس كعادته: "رسالة.. أرجو أن تقرأيها".
ولم ينتظر أن أرد، بل استدار بخفة ومضى على السلم دون أن يعطيني ظهره بل ظل ملتفتا إليَّ حتى غاب عن نظري.
أغلقت الباب، وجلست أقرأ، فرأيت الكلمات تهزّني]، إنها شاهد صامت على حب محجوب وصوت لم يُسمح له بالظهور.
الشبكة التي تغري كل عروس وتتباهى بها يوم زفافها ليست مجرد تقليد، بل رمز للشبكة الاجتماعية التي تكبّل النساء باسم الشرف. أما المشغل الصغير للحياكة، فهو مساحة ضيقة لكنها تحمل دلالة الاستقلالية الاقتصادية التي تمنح البطلة قدرة على الاستمرار رغم القيود.
هذه الرموز البسيطة تجعل القصة أعمق مما تبدو عليه. فهي لا تكتفي بسرد تفاصيل معاناة شخصية، بل تُحوّل التفاصيل اليومية إلى دلالات أوسع عن البنية الاجتماعية القاسية، حيث الحب يخنق في المهد، والحرية تُحاصر داخل بيت وأسوار عائلة.
المرأة بين سلطة الأسرة وقهر المجتمع
«شهادة قبل أن أموت» تكشف بوضوح كيف يُمارس القهر على النساء عبر أدوات المجتمع نفسه. الأم في النص لا تأتي كحامية، بل كمنفّذة للعرف: هي التي ترفض تعليم ابنتها الجامعي، وهي التي تجبرها على الزواج من رجل لا تحبه. ليست الأم شريرة بحد ذاتها، لكنها انعكاس لثقافة ترى في المرأة رمزًا للشرف، وتجعل من تزويجها وسيلة لصون السمعة، لا لمستقبلها الشخصي.
النص يلمّح أيضًا إلى أثر الفقر. فالمشغل والحياكة ليسا تفاصيل ثانوية، بل يشيران إلى واقع اقتصادي يقيّد أحلام النساء، حيث تتحول المهارات المنزلية إلى مصدر رزق متواضع، ويُطرح الزواج كحلّ اقتصادي بقدر ما هو اجتماعي. الزواج هنا ليس عقد اختيار، بل قيد يُفرض باسم الضرورة.
الحب بين الوعد والخذلان
الحب في القصة ليس مجرد علاقة وجدانية، بل مختبر اجتماعي يُفصح عن حدود الممكن والممنوع.
الحب هنا إذن ليس انتصارًا أو هزيمة فقط، بل مرآة تكشف هشاشة الذات أمام ثقل البنية الاجتماعية والسياسية.
نزيف داخلي وتكيّف خارجي
تُقدّم البطلة صورة للمرأة بوصفها ذاتًا انشطارية:
* من الخارج: زوجة، أم، عاملة، صانعة بيت متماسك.
* من الداخل: جرح نازف، هشاشة مكتومة، نزيف نفسي لا يُرى.
هذا التناقض يعرّي آلية الهيمنة: المرأة تُجبر على حمل أدوار متعددة (أم + أب + حامية + مُعيلة)، بينما يُتاح للرجل خيار الانسحاب أو الانكسار. هنا نستحضر مفهوم الهيمنة: حيث تُفرض السلطة عبر الأدوار اليومية، ومفهوم الاستراتيجيات اليومية, حيث تمارس المرأة تكيّفًا مقاومًا: تخفي ألمها، لكنها تُحوّل الألم إلى إنتاج (بناء أسرة، تعليم أبناء، إعالة).
واجهة براقة وسجن داخلي
البيت في القصة ليس مجرد فضاء مادي، بل قناع مزدوج:
واجهة خارجية متماسكة تُرضي المجتمع: بيت عائلة، زواج، أولاد.
داخل مليء بالقهر والنزيف: استنزاف يومي للمرأة، غياب الحماية، ثمن ثقيل تدفعه وحدها.
بهذا المعنى، البيت يتحول إلى رمز للوطن ذاته: واجهة رسمية زاهية، وباطن يفيض بالقيود والتناقضات.
الحب كمساحة للمقاومة
على الرغم من القيود، يبقى الحب الذي جمع ابنة العم بابن العم هو الطاقة الداخلية التي تحافظ على تماسك البطلة. قد يبدو حبًّا يتيماً، لكنه في جوهره مساحة للمقاومة. الحنين في النص ليس ضعفًا ولا استسلامًا، بل هو آلية نفسية للبقاء [كنت أرقد على عشبٍ أخضر يلامسه ضوء الأصيل، وهدوء غريب يسكن المكان. لمحته قادمًا نحوي، يبتسم ابتسامة كلها ثقة واطمئنان وصفاء. جلستُ، فجلس بجانبي. ألقى بالكتب من يده، واستلقى على ظهره وأشار إليَّ أن أصنع صنيعه. لم نتكلّم كثيرًا. فقط ابتسمنا وضحكنا. فقط تنفسنا معًا. نسيتُ العالم. نسيتُ الصراع. تمنيت أن تذيبنا حرارة الحب إلى الأبد]. البطلة، كلما ضاقت بها الحياة الزوجية المفروضة، استدعت الذكريات الأولى كدرع نفسي يحميها من الانهيار.
من زاوية نفسية، نحن أمام شخصية resilient قادرة على إعادة تشكيل نفسها في مواجهة القهر. لم تنهَر، بل صنعت لنفسها متنفسًا من خلال العمل الفني، ومن خلال ذاكرة حبّ منحها معنى. الحب في النص ليس مجرد قصة رومانسية، بل هو هوية مضادة للظلم، وملاذ داخلي ضد الانكسار.
السياسة كظلّ ثقيل على الحياة الخاصة
النص لا ينفصل عن سياق تاريخي مشحون. هناك إشارات متفرقة لكنها قوية: عمّ في السجن بسبب نشاط سياسي، عائلة ملوّثة بالوصمة، أحداث كبرى مثل المظاهرات ومقاومة الإنجليز في القناة [ التجارب الحيّة حول أمي جعلها تحرص على إماتة الأمل وهو نبتة صغيرة، فاستقبلت باستهانة فكرة حجز ابنتها لابن عمها وتزويجها منه عقب انتهاء دراسته وتخرجه، وجاء رفضها صريحًا صادمًا مُعرّضا بالقابع خلف القضبان وكان موقف والدي من كل ذلك الحياد والتردد بين واجبات الأخوة ونصائح الزوجة]. هذه الخلفيات تُذكّرنا بأن حياة الأفراد ليست معزولة عن السياسة.
السياسة هنا ليست خطابات ولا شعارات، بل قيد يثقل حياة الناس. مجرد وجود فرد من العائلة في المعتقل يكفي لحرمان البطلة من حبيبها: العائلة تخشى أن يُعتبر الزواج من ابن المعتقل «وصمة»، فتضحّي بسعادة ابنتها لتبقى خارج دائرة الشبهات [كانت أمي تستشهد بالمثل السائر "الباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح"]. هكذا، يصبح القمع السياسي مضاعفًا: فهو يعاقب الرجال في المعتقل، ويعاقب النساء بحرمانهن من الحب والحياة الطبيعية.
الزمن: شفاء أم عقوبة؟
واحد من أجمل عناصر القصة هو حضور الزمن. القصة تبدأ بالبراءة الأولى، ثم تنتقل إلى الشباب، فالزواج القسري، ثم الأمومة، وصولاً إلى الكهولة. ثلاثون عامًا من الانتظار قبل أن يتحقق الزواج الحقيقي. لكن هل الزمن هنا كان علاجًا، أم عقوبة طويلة؟
النهاية يمكن قراءتها كتتويج لانتصار الحب على كل القيود. لكن يمكن أيضًا قراءتها كمأساة: حياة كاملة ضاعت، وما تحقق في النهاية لم يكن سوى فتات من تعويض متأخر. هذا الالتباس هو جوهر النص، لأنه لا يقدّم إجابة سهلة، بل يترك القارئ في مواجهة أسئلة وجودية عن الصبر ومعنى الانتصارات المتأخرة.
ما يجعل النص استثنائيًا
1. الصدق: النص مكتوب بوعي صادق، بعيد عن الزخرفة الفارغة.
2. المزج بين الخاص والعام: الحكاية العاطفية تتحول إلى شهادة اجتماعية وسياسية.
3. التوازن: البطلة ليست ضحية تمامًا، بل فاعلة عبر ذاكرتها وعملها.
4. الرمزية: رموز بسيطة تمنح النص قوة دلالية مضاعفة.
5. النهاية المفتوحة: لا خاتمة رومانسية سهلة، بل مساحة للتفكير والتأمل.
ثغرات تحتاج إلى تطوير
رغم ثراء النص، هناك بعض المساحات التي تحتاج إلى تعميق:
القفزات الزمنية: السرد يتسارع أحيانًا على حساب التفاصيل اليومية، خصوصًا في حياة البطلة مع الزوج المفروض.
الشخصيات الثانوية: الأم والزوج يظهران كأنهما مجرد أدوات للتقاليد، وكان يمكن تعميق دوافعهما لإضفاء مزيد من التعقيد.
المعالجة الأخلاقية: الحب الأول بدأ في سن مبكرة، وهو ما قد يثير أسئلة لو قرأه جيل اليوم. وضع القصة في إطارها التاريخي يجنّب هذا الالتباس.
السياق التاريخي: الإشارات السياسية موجودة لكنها عابرة. لو ارتبطت أكثر بالسرد، لأصبح النص أكثر عمقًا في قراءة زمنه.
في المحصلة
«شهادة قبل أن أموت» ليست مجرد حكاية عاطفية، بل نص يعرّي البنية الاجتماعية والسياسية التي تحاصر الفرد، خصوصًا المرأة، في مجتمعات تقليدية. إنها شهادة على أن الحب يمكن أن يتحول إلى طاقة مقاومة، وأن الذاكرة قادرة على إبقاء الروح حيّة حتى وسط الخراب. في الوقت نفسه، هي نص يتركنا أمام سؤال مؤلم: كم من الحيوات تُهدر في انتظار اعتراف متأخر أو حرية مؤجلة؟
بهذا المعنى، لا يمكن قراءة النص إلا كوثيقة إنسانية عن جيل كامل عاش بين قيود الأسرة، وضغوط المجتمع، وقمع السلطة، وظل يبحث عن مساحات صغيرة للحب والكرامة وسط كل ذلك. إنها شهادة، نعم، لكنها أيضًا مرآة نُطلّ منها على جرحنا الجمعي.
تعليقات
إرسال تعليق