بقلم الناقدة الأديبة/ د. نجلاء الورداني
في قصته القصيرة(صلاة على ماء النهر)، يصوغ عبد الرحمن هاشم حكاية المعلم ساعي، الذي رحل غريقًا في ضباب نوفمبر 1980، لكنه ترك وراءه سيرةً ملتبسة بين ما يراه الناس وما تخبئه ذاكرته السوداء. القصة تمزج بين الواقعية الشعبية والنَفَس الصوفي، حيث يتقاطع مشهد حادث الغرق مع جريمة قديمة دفنها الزمن، لتكشف لنا أن الظلم قد يُوارى عن الأعين، لكنه لا يغيب عن عدالة الغيب.
أسلوب الكاتب يتسم بالتكثيف والشاعرية معًا؛ فهو يبدأ بصور حسية قوية للضباب والماء، ثم ينساب في سردٍ يشيع فيه جوّ من الترقب، قبل أن يفتح نافذة على السر الدفين: فتاة يتيمة اغتُصبت وأنجبت سرًا، لتعيش هي وأمها تحت بطش رجل يتخفى وراء صورة التاجر المصلح. هذه المفارقة بين "الوجه الاجتماعي" و"الحقيقة المظلمة" هي ما يمنح القصة قوتها، ويجعلها أقرب إلى مرآة للمجتمع الذي قد يمجّد شخصًا لمجرد صورته الظاهرة.
يحضر "الدرويش" في النص كرمز يتجاوز حدود الشخصية الواقعية، فهو ليس مجرد شيخ ناسك بل تجسيد لفكرة العدالة الإلهية التي تتحرك خارج حسابات البشر. صلاته الطويلة على شط الترعة، وورقته الملقاة في الماء، ليست مجرد مشاهد درامية، بل طقس رمزي يربط الأرض بالسماء، ويحوّل القصة إلى ما يشبه أسطورة صغيرة من أساطير الريف. هنا تتجلى قدرة الكاتب على المزاوجة بين الواقعية والتصوف، بين السرد الشعبي والبعد الميتافيزيقي.
ورغم ما في القصة من تشويق وقوة تصويرية، إلا أن الشخصيات الثانوية، كالأم والبنت، بدت أقرب إلى أدوار وظيفية لكشف خطيئة المعلم ساعي، أكثر من كونها شخصيات مكتملة الملامح. كما أن النهاية، وإن جاءت محكمة ومنسجمة مع البناء، إلا أنها كانت متوقعة بعد تمهيد دعاء الدرويش، وكان يمكن أن تُبنى بمفاجأة أو التواء درامي أشد.
ومع ذلك، تبقى القصة علامة فارقة في تجربة عبد الرحمن هاشم، الذي تفوّق على نفسه هنا في الجمع بين قوة الفكرة وثراء الرمز وبراعة السرد. فالقارئ أمام نص قصير لكنه مشحون بالدلالات، يعيد إنتاج أجواء الحكاية الشعبية ويمنحها بعدًا روحيًا يجعلها جديرة بالتأمل والقراءة النقدية.
تعليقات
إرسال تعليق