بقلم الأديبة الناقدة/ د. نجلاء الورداني
تمثل قصة "نجح في الاختبار!" نصًا رمزيًا بليغًا يعيد إلى الواجهة سؤالًا إنسانيًا خالدًا:
كيف يتحمل الإنسان الظلم بكل ما فيه من قسوة ومشقة وبغض وعذاب، ثم يخرج منه منتصرًا في النهاية، لا بالثأر أو الغلبة، بل بالصبر والثبات والاحتساب والإيمان؟
في مشهد تصويري بسيط في ظاهره، عميق في دلالته، يصوّر الكاتب خطيبًا يقف بين الجماهير بعد غارةٍ ظالمةٍ أدمت القلوب قبل أن تهدم البيوت. لم يأتِ خطابه ليبكي الهزيمة ويشعرنا الويلات والدمار، بل ليكشف لنا أن للنصر وجوهًا كثيرة، وأن الهزيمة قد تكون وجهًا آخر من وجوه النصر لمن أحسن الصبر والتبصر وصدق في إيمانه.
فتأتي كلماته تشبه شعاع نور خارج من بين أحضان الدمار:
"لمَ تحصرون معنى النصر في صورٍ بعينها لا تعرفون غيرها؟ ألا فاعلموا أن للنصر وجوهًا شتّى، وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند أولي النظرة القصيرة..."
بهذه العبارات، يضع الكاتب أمامنا المفارقة الكبرى بين الانتصار الظاهري والهزيمة الباطنية، وبين الانكسار المادي والنصر الداخلي.
فإبراهيمُ عليه السلام، كما يقول الخطيب، لم يكن مهزومًا حين أُلقي في النار، والحسينُ عليه السلام لم يكن مهزومًا حين استُشهد؛ كلاهما انتصر لأنه ثبت على الحق.
وهكذا يتحول الظلم في القصة إلى اختبارٍ إلهي للثبات.
فالخطيب الذي واجه الغارة بالكلمة، لم يكن يخاطب الناس فقط، بل كان يخاطب نفسه أيضًا، وكأنه كان يُهيئها للامتحان الأخير.
وما إن أنهى خطبته وصلّى بالناس وخرج من المسجد، حتى اخترق صدره رصاص الغدر، فسقط مضرجًا بدمه الطاهر، في مشهد لا يُغلق القصة، بل يفتح معناها على اتساعها.
لقد نجح في الاختبار الذي تحدّث عنه.
تحمل الظلم حتى النهاية، وصبر على القهر حتى صار الصبر نفسه نصرًا.
لم يمت مهزومًا، بل عاش لحظته الأخيرة في قمة المجد الإيماني، حين التقت الكلمات بالدم، فتحوّلت الخطبة إلى عقيدة حية خالدة.
عبد الرحمن هاشم هنا لا يروي حكاية عن رجلٍ استشهد بعد غارة، بل يصوغ معنى كونيًا عن الإنسان في مواجهة الظلم.
كل مظلومٍ على وجه الأرض هو في اختبارٍ يشبه اختبار هذا الخطيب:
هل يصبر؟ هل يثبت على قيمه رغم القهر؟ أم ينهار ويستسلم للظلم؟
وفي هذا الامتحان تتجلى الحقيقة الكبرى التي أراد الكاتب أن يرسلها لنا: أن النصر يبدأ من الداخل، من لحظة التماسك والثقة في عدالة الله.
ولهذا، لم يبكِ الناس الشهيد، بل استبشروا به، كما تسرد الأقصوصة:
"لم يبكوه، بل أبصروا به واستبشروا؛ فقد نجح في الاختبار. جاءت الشهادة تحتضنه بعد أن سعت وراءه طويلاً طويلاً."
وهنا تبلغ الكلمات ذروتها الرمزية، فالموت لا يصبح نهاية، بل اكتمالًا لمسار الصبر.
وما كان يمكن لهذا البطل أن يبلغ هذا النصر الداخلي لو عاش ألف عام يخطب في الناس، لأن النصر الذي يخلد الكلمة هو الدم الذي يصدقها.
وهكذا تعلمنا كلمات الخطيب وقصته أن الظلم مهما اشتدّ، لا ينتصر على من صبر عليه بإيمان صادق.
فالصبر ليس ضعفًا كما يتوهم البعض، بل هو قوة داخلية تصنع المجد الحقيقي للإنسان.
ومن يصبر على الظلم صبرًا جميلًا، ينجح في الاختبار، حتى وإن ظهر للعالم مهزومًا.
تُثبت أقصوصة الأديب وكلماته "نجح في الاختبار" أن الأدب ليس مجرد روايةٍ للأحداث، بل مرآة للجوهر الإنساني في أوقات المحنة.
لقد جسّد عبد الرحمن هاشم في نصه هذا فلسفةً عميقة تقول إن الظلم يمتحن، والصبر يطهر، والإيمان ينتصر.
ومن ثم؛ فإن كل مظلوم هو في طريقٍ إلى النور، متى أيقن أن النجاح في الاختبار لا يكون إلا بالصبر على البلاء، واليقين بأن العدل الإلهي لا يغيب، وإن تأخر في الحضور.
تعليقات
إرسال تعليق