بقلم أ.د.
عزة شبل محمد
أستاذة
اللغويات بكلية الآداب في جامعة القاهرة
وأستاذة
اللغويات بكلية الدراسات الأجنبية في جامعة أوساكا باليابان
امتدت
يده عبر فتحة ضيقة من زجاج النافذة الأسود، وأخذ منها واحدة، وقبل أن تمتد يدها،
تطايرت النقود المبعثرة، وتطايرت هي معها في سباق محموم، بعد أن انطلقت سيارته
الفارهة، وعلت ابتسامة بائسة وجهها الأسمر النحيل.
ما
زال معها الكثير، لم تستطع التخلص إلا من واحدة، وقد أوشك الظلام أن يغيم. تقدمت
باستحياء ممسكة بأخرى، واقتربت أكثر وأكثر، لكن ملابسها المتسخة، وعينيها
الغائرتين كانتا تدفعان السيارات للسباق مع الريح في الممرات الضيقة. تحسست البقع
الزرقاء المتفرقة التي ترقد على جسدها النحيل، لم يكن هناك أمل في النجاة. استجمعت
قواها، واقتحمت الميدان، فإذا بالفوضى تعم الميدان، وأصوات الضجيج تعلو وتعلو، لتجد
أختها الكبرى ملقاةً على الجانب الآخر من الطريق. نظرات متبادلة يملؤها الفزع
والفقر والجوع، والمارة يعبرون هنا وهناك. لفَّ السكون الميدان، وعمَّ الصمت،
وتحول الميدان إلى قبر ابتلع الفتاتين.
لمعت
فكرة وسط هذا السكون، حاولت الصغرى تقليد المارة، فسقطت عيناها في بحر أسود عميق،
ففتحتهما مسرعة مذعورة بعد أن تذكرت تلك الليلة البائسة، التي ابتلع فيها ريقها ما
اشتهى من النفايات. أما الكبرى، فقد كانت عيناها معلقتين في السماء، بينما ينهمر
المطر سريعًا متلاحقًا.
لم
تتعطل شاشات العرض الكبيرة التي تعلو الميدان، صراخ كلما ركلت قدم أحدهم كرة
مستديرة، يعقبه صوت نحيب مصطنع على أجساد فارقتها الحياة، يليه نشوة عارمة بمولود
جديد.
بدأت السماء ترعد، والمارة يتسارعون هنا وهناك.
تحول الميدان إلى بركة من الطين، اتسخت
ملابسهما الممزقة، فاتخذتا من الوحل غطاء، وظلتا تحته تنتظران مجيء أول
شعاع من شمس الربيع.

تعليقات
إرسال تعليق