أ.د. أنس عطية الفقي
يُعَدُّ الاقتباسُ من
القرآن الكريم أظهرَ أنواع التأثير القرآني في شعر العصر المملوكي، تشهد بذلك كثرةُ
النصوص الوارد فيها هذا النوع، والتي تَدُلُّ على أن شاعر هذا العصر كان يلجأ إلى
الاقتباس من القرآن الكريم تعبيرًا عن القدرة على توظيف النص القرآني الماثل في
أذهان الناس في سياق شعره.
وقد اتخذ الاقتباس القرآني أشكالا
متعددة في طريقة توظيفه داخل النص الشعري أثبتت قدرات فنية متميزة لشعراء هذا
العصر، حاول هذا البحث تحليلها وبيانها؛ بما يساعد المتلقي على تذوق جماليات هذا
المنزع البديعي، فقد كان يمثل مع غيره من ضروب البديع الذوق السائد في هذا العصر.
وجاءت
هذه الأشكال على النحو التالي:
1-
صياغة
الاقتباس بلا تغيير في لفظه:
يحتاج هذا النوع من
التوظيف مقدرة كبيرة من الشاعر حتى يُسَوِّغَ لدخول الاقتباس بشكله القرآني
المتميز في سياق الشعر مُحَوِّرًا دلالته ليناسب المعنى الذي سيق من أجله.
ويكثر هذا النوع في النمط
القولي، الذي يبدأ بـ "قال"، أو "تلا"، أو ما يشير إلى ورود
نص قرآني يسهم بشكل أساسي في تشكيل النص الشعري، وأول ما يفعله الشاعر لأجل توظيف
النمط القولي أن يسنده غالبا إلى غير قائله الأصلي (في السياق القرآني) كقول ابن
نُباتة[i]:
|
وكُنتُ مخْذُولا فقالَ الهَنا |
|
نصْرٌ مِنَ اللهِ وفَتحٌ قريبْ[ii] |
فالشاعر هنا مهد
للاقتباس بذكر الخذلان في الشطر الأول؛ لتظهر المفارقة من خلال الضدين "الخذلان
– النصر" عند إيراد الاقتباس في الشطر
الثاني، ثم أسند القول مجازا إلى "الهنا"؛ ليأتي بعد ذلك بالنص القرآني
دالا على البِشْر والنصر والفتح.
والواضح أن دلالة هذا النص
القرآني في سياقه القرآني لا تبعد كثيرا عن دلالته في هذا السياق الشعري، كل ما
هنالك أن الشاعر جعل الدلالة خاصة به وبمناسبته.
ومما يدفع الشاعر إلى عدم
التصرف في النص القرآني كونه يريد توظيف فن الاكتفاء[iii]
مع الاقتباس؛ ذلك لأن فن الاكتفاء قائم على ذكر جزء من النص المقتبس المشهور وحذف
جزء متمم له لفظيا ومعنويا اعتمادا على شهرته وذيوعه، حيث سيكمله السامع حتما
عندما يستمع إلى الجزء المذكور.
والاكتفاء
غالبا ما يُلزم الشاعر بعدم تغيير شيء من النص القرآني المذكور، حتى يتمكن السامع
من إكماله أيضا دون تغيير. يقول ابن
نُباتة:
|
اللهُ سَخَّرَ لي وعائِلَتي |
|
مَنْ حفَّ بي الإكْرامَ والكَرَما |
وواضح
أن النص القرآني سالمٌ من التغيير أو التصرف؛ بسبب قصد الاكتفاء، فالشاهد هنا من
النمط القولي، بدليل كلمة "تَلَوْتُ". والنص الوارد هنا مسند في القرآن إلى رجل مؤمن
صالح أدخله الله الجنة: "قال يا ليتَ قومي يعلمونَ بما غفرَ لي
ربِّي وجعلني من المُكرمين"[v].
فاكتفاء الشاعر هنا دل على معنى مبهم
عظيم، قد لا يكون هو عين المعنى القرآني، فالمغفرة لا تتناسب مع السياق، ولكن
المعنى العام للجزء غير المذكور يفيد الإكرام والسعادة والفضل، وهو الجانب
الإيحائي المقصود. ولظروف السياق كان الشاعر هو المتكلم، وأسند التلاوة إلى نفسه (تلوتُ)
قاصدا المديح. كما أن الشاعر قد مهد لاقتباسه هنا ببيت كامل ذكر فيه "عائلتي"
لتتناسب مع كلمة "قومي" الواردة في الاقتباس.
ويأخذ التمهيد لورود
النص المقتبس أشكالا متعددة، فبالإضافة إلى المقابلة أو التضاد الذي ظهر في الشاهد
الأول نجد المجانسة، وحسن التعليل، والطيّ والنشر، ومراعاة النظير، والترشيح
للتورية، والترشيح للصورة، وغير ذلك من المهيئات اللفظية والمعنوية. والتمهيد قد
يأتي بوجه مما سبق، وقد يأتي بأكثر من وجه.
أما المجانسة أو
الجناس فيكون بين كلمة من النص المقتبس وكلمة شبيهة بها أو من جذرها اللغوي يذكرها
الشاعر قبل ورود الاقتباس تمهيدا له.
ولو أخذنا شاهدا من هذا النوع
لكي نحلله تركيبيا ولنتعرف على أثر الاقتباس فيه؛ لتبين لنا أن تركيب هذا الشاهد
غالبا ما يُبنى على أساس جملة الاقتباس ونادرا ما يأتي على غير ذلك.
فمما ورد مبنيا على أساس جملة الاقتباس
قول الشاعر:
|
إنسانُ عيْنِي ساهِرٌ بكَ سافِحُ |
|
يا أيُّها الإنسانُ إنّكَ كادِحُ[vi] |
فبالإضافة إلى ذكر
الشاعر كلمة "إنسان" في بداية البيت، نجده يمهد لتحوير الدلالة فيضيف
كلمة إنسان إلى كلمة عيني، ليخرج التركيب من إطاره القرآني إلى إطاره الشعري، ثم
يمهد بعد ذلك لكلمة "كادح" بجملة الخبر" ساهرٌ بك سافحُ" ليحق
في الاقتباس أن يطلق عليه "إنك كادحُ".
وقد تبدو جملة
الاقتباس هنا كأنها "اكتفاء"، وهي ليست كذلك؛ وذلك لأن تحوير الدلالة
الذي توخاه الشاعر من خلال التوظيف والتمهيد يهدُف إلى أن تتم الفائدة عند كلمة "كادح"،
وأن ينتهي بها البيت دون حاجة إلى تكملة، في حين أن التوقف عند كلمة "كادح"
في النص القرآني لا يُستساغ معنويا؛ حيث يتعلق بها ما وراءها من جار ومجرور ومفعول
مطلق وخلافه، وذلك في قوله تعالى: "يا أيُّها الإنسانُ إنك كادحٌ إلى
ربِّك كدْحاً فمُلاقيه"[vii]
وفي توظيفٍ مشابه
للنص ذاته، يُطيل ابن نُباتة مساحة التمهيد لتأخذ بيتا كاملا ونِصْف البيت التالي
حيث يقول:
|
تَركَ الأَسَى إنسانَ عيْنِي بعدَكُمْ |
|
أبداً يُغادي لوعةً ويُراوحُ |
والتمهيد هنا إعادة
صياغة مطولة للتمهيد الذي ورد في الشاهد السابق، وهذا التكرار في توظيف النص
المقتبس نفسه إنما يدل على ولع الشعراء بالاقتباس وتفننهم في توظيفه.
والتمهيد بحسن
التعليل يأتي بعده النص القرآني وكأنه شاهد مؤكد ما يرمي إليه الشاعر في سياق شعري
مختلف عن سياقه القرآني، وهذا ما يخرجه من دائرة الاستدلال أو الاستشهاد الحقيقي
أو "التنصيص" إن جاز التعبير إلى دائرة "التناص"، يقول الحِلِّي[ix]
في مُقَطَّعَةٍ له بعنوان " أنت حسبي":
|
أمَرَ اللهُ أنْ يُطيعَكَ لُبِّي |
|
حينَ ولاّكَ أمرَ جسمي وقَلبي |
فجملة "الروح
من أمر ربي" جملة قرآنية سالمة من التغيير، وردت في السياق القرآني تمثل
جزءا من مقول قولٍ طلبيٍّ بصيغة الأمر الموجه من الله إلى رسوله -صلى الله عليه
وسلم- في قضية مصيرية جادة تؤرق الإنسان في كل زمان ومكان؛ ليردَّ بها على
السائلين من بني البشر "ويَسْئلونَك عن الرُّوحِ قل الرُّوحُ من أمرِ
ربِّي وما أوتيتُمْ منَ العِلمِ إلاّ قليلا "[xi]
والشاعر حينما انتزع هذا التركيب من سياقه وأدرجه في سياق غزلي يداعب من خلاله
محبوبه ويتذلل له، أراد – أيضا- أن يؤكد قَدَرِيَّةَ حبه وأزليته.
وواضح أن الشاعر بنى
مُقَطّعَتَه على أساس هذا الاقتباس، فمع بداية المُقَطَّعة نجده يسوِّغ ويمهِّد
لمجيء كل كلمة من كلمات الاقتباس. فقوله: "أمر الله" سوَّغ بها لـ
" أمر ربي"، وأنت روحي سوّغ بها لكلمة "الروح"، وهذا التسويغ
أو التمهيد الذي مهد به الشاعر لجملة الاقتباس من شأنه أن يوجه الذهن إلى الدلالة
الشعرية الجديدة، فالشاعر في هذا التمهيد استعمل "حسن التعليل"، وهذا
اللون يجعل من جملة الاقتباس نتيجة طبيعية أفضت إليها مقدمات معللة عرضها بأسلوبه
البديع.
والتمهيد
الذي يمهد به الشاعر لدخول جملة الاقتباس لا يلزم الشاعر دائما أن يكون لفظيا كما
في المثال السابق (أمر الله – أمر ربي) (أنت روحي – الروح) بل يأتي بالتمهيد أحيانا مرشِّحا جملة الاقتباس لدور
تصويري مُحَوَّر، دون أن يذكر شيئا من ألفاظها في التمهيد، ويكون ذلك حينما يصور
الشاعر حالةً أو موقفا من خلال جملة الاقتباس. من ذلك قول الحِلِّي مادحا:
|
قامَ في حَوْمةِ الهَياجِ خَطِيباً |
|
قائلاً كُلُّ مَنْ عليها فانِ[xii] |
فالشطر
الأول صنع جوا تصويريا ممهِّدا للدلالة الجديدة، حيث قام الممدوح في ساحة المعركة
كأنه الخطيب الذي يرد بلسان حاله "كلُّ من عليها فان"[xiii]
فجملة الاقتباس هنا دخلت سياقا جديدا، فبعد أن كانت تدل في سياقها القرآني على
حتمية الموت وشموله، أصبحت تدل هنا على قوة الممدوح وشجاعته، ومقدار الإبادة التي
يمارسها في أعدائه.
وقريبٌ من هذا الضرب
التمهيدي نجد ضربا آخر يضيف إلى كونه مرشحا لصورة مجازية فنا بديعيا آخر هو الطيّ
والنشر؛ ليساعد في عملية التوظيف، ويجعل النص المقتبس متمكنا في موضعه كقول ابن
نُباتة:
|
أفْدِي التي فطَّرَتْ قلبي لَواحِظُها
|
|
موافقاً لمعَانِي حُسنِها النَّضِرِ |
فتمهيد الشاعر للنص
المقتبس هنا أخذ شكلا غريبا بديعا؛ حيث إن اعتماد الشاعر على التورية في كلمة "فَطَّرني"
استحضر لنا السياق القرآني الخاص بشهر الصيام، الذي وردت فيه الآية القرآنية
المقتبسة: " فمَنْ كان منكُمْ مريضاً أو على سفرٍ فعِدةٌ منْ أيامٍ أُخَر"[xv]
وكلمة "فطَّرني" بلفظها لم ترد
في النص القرآني ولكنها بمعناها حاضرة فيه، وبعد أن يظلل الشاعر نصه بهذه الظلال
القرآنية، يجد القارئ المعنى المجازي المقصود بقليل من التمهل في تذوق النص
الشعري، يساعده على ذلك التمهيد بالطيِّ والنشر[xvi]،
فالشاعر بدأ بيته بالجفن وكرى العين، وجاء في الاقتباس بما يناسبهما على الترتيب،
فجفن محبوبته مريض، وكرى عينيه على سفر، والارتباط بين هذه المعاني قديم ومتداول
بين الشعراء، ولكن الجديد هو ربط ذلك بالاقتباس القرآني مع الطي والنشر والتورية.
ونجد في هذا الشاهد ملحظا
دقيقا، وهو أن الشاعر حينما وظف الاقتباس القرآني لم يغير كلمة "منكم"
ويجعلها للمثنى الذي يناسب ما تقدم من البيت حرصا منه على أن يظل الاقتباس القرآني
سالما من التغيير.
وكثيرا
ما يعدل الشاعر عن صيغة إلى صيغة أخرى حتى لا يخدش الاقتباس القرآني ويورده سالما
في شعره. يقول ابن نُباتة:
|
ذو وجْنةٍ قد زانَ شَعْـ |
|
ـرُ الصُّدغِ منظرَها النَّضيرْ |
فالشاعر
عدل عن صيغة المفرد (خالها) إلى صيغة الجمع (خِيلانها) ليحقق غرضه المقصود ويورد
الاقتباس دون تغيير في لفظه أو تركيبه، حيث تتناسب مع الضمير (هم) الدال على
الجمع.
وقد يتبادر إلى الذهن
أن الشاعر فاته أن (خِيلان) جمع تكسير غير عاقل يجب أن يعامل معاملة المفرد المؤنث
فنقول (ولباسها) إلا أن النظرة المتأنية تسوّغ الوجه الذي أورده الشاعر لسببين:
أولا: لأن الشاعر قصد
وجها مجازيا تصويريا للخيلان، ومن الصور ما يضفي صفة العقل على غير العاقل.
ثانيا: أنه قصد كذلك
الحفاظ على صورة النص المقتبس من التغيير أو التعديل، حيث يمثل ذلك قدرة الشاعر
على توظيف النص القرآني بصورته الطبيعية في سياق شعري مختلف عن السياق الأصلي،
وكأن ذلك هدف منشود في شعر العصر، حين لا يضطر الشاعر إلى إدخال تعديلات على النص
المقتبس.
وبالإضافة إلى ما سبق
فقد جاء الاقتباس ليعطي الصورة ظلالاً وألوانا ويحقق التمكن والانسجام بين أطرافها؛
فهناك تجانس واضح بين الحرير الأسود ولون الخيلان، وتجانس تصويري متداول بين الجنة
ووجنة المحبوب.
ودلالة
التركيب القرآني " ولباسُهُم فيها حرير"[xviii]
لم تتغير كثيرا في السياق الشعري، كل ما هنالك أن الشاعر وظفها تصويرا فنيا مجازيا
في سياقه الشعري. في حين أنها تصوير حقيقي لما يكون عليه أهل الجنة في السياق
القرآني.
ومن الشواهد التي عدل
فيها الشاعر عن صيغة المفرد إلى صيغة الجمع؛ ليحتفظ بالنص القرآني سالما دون تغيير
قول ابن نُباتة:
|
نَأَتْ عن مُحبِّيهِ أعْطافُهُ |
|
وأمسَوْا إلى الطَّيفِ يَسْتطلعُونْ |
فالشاعر
مهد لاقتباسه ومكن له بأن استعمل صيغة الجمع ( محبيه) لتناسب يهجعون، بالإضافة إلى
الكلمات الدالة على ألوان المعاناة التي قدم بها للاقتباس، والتي تظهر في قوله : "نأت"،
"أمسوا يستطلعون"، "ٍقيام لفرط الأسى"، وهي تعبيرات ممهدة
تماما لمجيء الاقتباس القرآني، الذي وصف الله به في القرآن حال المتقين في الدنيا
"كانوا قليلاً من الليلِ ما يهْجعُون"[xx]،
وواضح أن دلالة التركيب لم تتحوّر، أما السياق فهو الذي تغير؛ حيث عاد الضمير في
يهجعون على المحبين السابق ذكرهم في البيت الأول، في حين أنه في النص القرآني عائد
على المتقين المحسنين.
ومن مظاهر التمهيد للنص المقتبس
والتوطين له في النص الشعري أن يتوخى الشاعر ما يسمى في البديع بمراعاة النظير[xxi]،
فيأتي بكلمة ذات علاقة معنوية بما في النص المقتبس كقول ابن نُباتة:
|
سَكنْتُ وابْنِي بِدارِ قومٍ |
|
أوقاتُنا تارةً وتارهْ |
فمن
باب مراعاة النظير، ذكر الشاعر الدار في مقابل الحجارة، والدار من جنس الحجارة،
كما ذكر الخصام بوصفه سببا في اشتعال النار، وعلاقة الخصام بالنار علاقة مألوفة
ومتداولة، وبذلك تيسر للشاعر التوطين الكامل للنص القرآني "وقودها الناس
والحجارة"[xxiii]
حيث الناس مصدر نار الخصام، والحجارة هي مادة الدار المشتعلة بها.
ومن
هذا النمط التمهيدي أيضا يسوق الشاب الظريف اقتباسا في سياق شعري غزلي يقول:
|
أهْيَفٌ كالبدرِ يُصْلِي |
|
في قلوبِ النَّاسِ نَارا |
والشاهد هنا في الشطر
الأخير من البيت الثاني "ترى الناس سكارى"[xxv]
لأنه ورد سالما بلا تغيير أما الاقتباس الموجود في البيت الأول (يُصلي – نارا) فهذا اقتباس تغيرت بنيته التركيبية،
وسيأتي بيان هذا النمط لاحقا.
ولكن ورود هذا النمط
المتغير قبل الشاهد الذي لم يحدث فيه تغيير يُعَدُّ من قبيل مراعاة النظير أيضا،
والنظير الأول هنا هو الاقتباس الأول الذي أدخلَنا في مجال النص القرآني من
الناحية الشكلية، وفي نطاق يوم القيامة من الناحية التصويرية؛ ليمهد للنص القرآني
الآخر (النظير الثاني)، الذي ورد في سياقه القرآني معبرا عن ذهول الناس من هول يوم
القيامة: "يومَ تَروْنَها تَذهلُ كلُّ مرضعةٍ عمَّا أرضَعتْ وتضعُ كلُّ
ذاتِ حَمْلٍ حَمْلها وتَرى الناسَ سُكارى وما هُمْ بسُكَارى ولكنَّ عذابَ اللهِ
شَديد"[xxvi].
وعلى ذلك فالتناسب واضح بين (يصلي نارا) و(ترى الناس سكارى). كما أن ذكر الخمر قبل
الاقتباس السالم يعد أيضا من قبيل مراعاة النظير، حيث ذُكِرَ السُكْرُ بعده في نص
الاقتباس، والخمر سبب السكر، بالإضافة إلى كونها عاملا مساعدا على تحوير الدلالة
من سُكْر ذهولي رهيب إلى سُكْر جمالي ممتع، وهذا يحقق المفارقة في توظيف الاقتباس.
وقد يأتي النظير
القرآني المتصرَّف فيه ممهدا بدلالة عكسية للنظير الآخر الذي لم يتغير لفظه
وتركيبه كقول ابن نُباتة مادحا:
|
بشَّرَنا الفتْحُ بعاداتِنا
|
|
لديْهِ وهْيَ المَنُّ والمَنْحُ |
فبالإضافة
إلى التورية باسم ممدوحه (الفتح)، نجد الشاعر قد مهد بنظير قرآني (تبت يد خذلاننا)
يحمل دلالة عكسية للنظير الآخر السالم من التغيير" جاء نصر الله
والفتح"، وهذا النمط يمثل قدرة الشاعر على دمج نصين مختلفين من القرآن في بيت
واحد في سياق شعري منسجم، وهذا شبيه بما ورد سابقا في التمهيد الأول (التمهيد
بالمقابلة) ولكن الفرق هو أن المقابلة هنا طرفاها قرآنيان.
ويأتي الاقتباس
السالم على سبيل الاستشهاد، والاستشهاد هنا ليس استشهادا حقيقيا على قضية شرعية
نزل فيها أو حولها النص القرآني المقتبس، ولكنه استشهاد مجازي -إن صح التعبير-
فالسياق الوارد فيه مختلف تماما عن السياق القرآني للنص المقتبس، ولكن العلاقة
المجازية التصويرية بين الاقتباس والنص الشعري تسوغ الاستشهاد وتجعله مقبولا من
الناحية الفنية كقول الحِلّي:
|
فهْبنِي جَرحْتُ الخدَّ منكِ
بِنظْرَةٍ |
|
أفمَا لأسْرِ القلبِ منكِ خلاصُ |
فجملة
"الجروح قصاص"[xxix]
جملة قرآنية جاءت في إطار تشريعي واقعي، وهي تمثل مرجعية في القضاء الإسلامي للحكم
والفصل بين الخصمين، وقد انتزعها الشاعر من سياقها الشرعي الجاد؛ ليسوقها في سياق
غزلي فنِّي، تُمثل فيه -أيضا- مرجعّية يستشهد بها على حاله مع محبوبه؛ لتتحقق
المفارقة على المستوى الفني.
ولأن الجملة سيقت على
سبيل الاستشهاد، تعين على الشاعر أن يوردها سالمة من التغيير، ويمهد لقدومها
بمقدمات توطن لها وتمكن لها في ختام البيتين، عرضها بطريقة (الجدل الفني) إن صح
التعبير.
2-
الاقتباسُ
المتصرَّفُ في لفظه:
الملاحظ في توظيف
الشعراء للنصوص المقتبسة أنهم يحرصون على إيرادها سالمة من التغيير، مع تحوير
دلالتها لتناسب السياق الجديد، لتمثل دليلا على قدرتهم الإبداعية في تشكيل النص
الشعري، ولكن ذلك لا يستقيم لهم دائما، كما أن بعض الشعراء قد يجد في تغيير النص
المقتبس صورة مثلى للتوظيف، أو قد يضطر إليها اضطرارا؛ بسبب دخول النص المقتبس في
السياق الجديد.
والتغيير الذي يدخله الشاعر على النص
المقتبس قد يكون حذفا أو إضافة أو استبدالا أو يكون تغييرا شاملا يضم أكثر من
جانب.
ـ التصرف بالحذف:
والتغيير
بالحذف ليس المقصود به فن الاكتفاء الذي سبق إيراده ضمن الاقتباس السالم، ذلك لأن
حذف الاكتفاء لا يعد تغييرا في النص بقدر ما هو تذكير بتكملته، أما الحذف هنا فهو
حذف شيء داخل التركيب لسبب فني: قد يكون الوزن أو القافية وقد يكون غير ذلك من
متطلبات صياغة النص. والحذف بهذا المعنى نادرٌ في نصوص الاقتباس، فلا يكاد الباحث
يحصي شواهد مطردة من هذا النوع؛ وذلك لأن الحذف في أغلب الأحيان يصاحبه استبدال،
فعندما يحذف الشاعر كلمة معينة من النص المقتبس يستبدل بها كلمة أخرى مناسبة
لسياقه الشعري، والنص المقتبس في الغالب يكون تركيبا دالا على معنى، فإذا حذف منه
شيء تعين التعويض عنه. ومع ذلك نجد قليلا من التراكيب التي حذفت منها كلمة أو أكثر
دون تعويض كقول الحِلّي:
|
رميتَ بالذُّلِ قوماً أنتَ عِزُّهُمُ |
|
وما رميتَ، ولكنَّ الإلهَ رمَى[xxx] |
فالنص
المقتبس جاء من قوله تعالى: "وما رميتَ إذ رميتَ ولكنَّ اللهَ رَمَى"[xxxi]
فالشاعر حذف منه كلمتين (إذ رميت)، وعلى الرغم من أن السياق لا يرفض وجود
هاتين الكلمتين إلا أن الوزن لا يقبل ذلك، ولأجل هذا الغرض نفسه- الوزن- حول الشاعر
البنية الصرفية لكلمة (الله) إلى (الإله).
وهذا البيت –على
قلة كلماته– جمع معاني كثيرة في سياق الرثاء بالإضافة
إلى ما فيه من بديع، فقد جمع إلى شكوى فراق المرثي الذكر الحسن (أنت عزهم) وحتمية الموت
(ولكن الله رمى) وهي جملة موحية بفداحة المصيبة. ومن أوجه البديع الواردة في هذا البيت:
الطباق بين الذل والعز، والتوجيه في كلمة "رمى" التي يمكن أن تؤدي معنى
رمي الناس بالذل، أو رمي المرثي بالموت. ثم هذا الاقتباس الذي يمثل أكبر مؤثر
جمالي في البيت.
ومن شواهد هذا النوع قول ابن نُباتة:
|
يا أزرقَ العينِ والتَّعدِّي |
|
أجْرمْتَ في العاشقينَ حقَّا |
وجملة
الاقتباس هي الشطر الأخير من البيتين (ونحشرُ المجرمين زرقا) وأصله القرآني قوله تعالى:
"ونَحشُرُ المُجرمينَ يومئذٍ زُرْقَا"[xxxiii]
فقد حذف الشاعر منه كلمة (يومئذٍ) لضرورة الوزن، ولمناسبة السياق، والاقتباس وارد
هنا على النمط القولي، بدليل (يدعو) التي توحي بنص قولي قادم.
والشاعر هنا تفنن في ضروب البديع لكي
يمهد ويوطن لاقتباسه، فواضح من البداية أنه وجد تجانسا بين "أزرق" وهو
اللفظ الذي يشير إلى المثير الشعري (زرقة عن المحبوب) و"زرقا" الكلمة
القرآنية الوحيدة من هذا الجذر اللغوي (زرق) فاستحضر تركيبها القرآني "ونحشر
المجرمين يومئذ زرقا" ثم قدح زناد فكره كي يوظف هذا التركيب ويجعله
مناسبا لسياقه الشعري، فالنص وارد في سياق يوم القيامة، ويصف المجرمين، فتعين عليه
أن يمهد لهذا كله، من هنا فجَّر الشاعر دلالة مزدوجة لكلمة أزرق، من خلال إضافتها
إلى العين، والتعدي، حيث تأخذ مع كلٍّ منهما دلالة مختلفة عن الأخرى، فالأولى هي
اللون العادي، والثانية هي زرقة نصل السيف الحاد، وهذه الدلالة الثانية هي التي
مهدت لكلمة "المجرمين" حيث العلاقة واضحة بين التعدي بالسيف، والإجرام،
ولكي ينتقل الشاعر إلى يوم القيامة يفوض أمره إلى الله في المطالبة بحقه من حبيبه
(طليبك الله) ثم يصرح بنص الاقتباس كناية عن يوم القيامة.
وبدخول الاقتباس
القرآني يتجلى المعنى الثالث لكلمة "أزرق" التي بدأ بها الشاعر بيتيه،
وهي هنا بمعنى أعمى، حيث إن "زرقا" بمعنى عُميانا، وكأن
هذا التجانس اللفظي بين "أزرق" الأولى و"زرقا" الأخيرة
بما تحمل من معان كان – بمنطق الشعر وليس العقل- دليلا على صدق دعوى الشاعر في حبيبه، وهو
في الوقت نفسه دليل على قدرة الشاعر على جمع كثير من فنون البديع – ذوق العصر- في بيتين اثنين، كالاقتباس
والتورية والجناس والإرصاد[xxxiv]،كما
لا يخفى تمرد الشاعر الخفي على قداسة النص القرآني.
والملاحظ أن موضع نص
الاقتباس في السياقين – القرآني والشعري- جاء مختلفا وهو ما سوّغ للشاعر حذف كلمة "يومئذ"
لعدم مناسبتها سياقه، ويتضح ذلك فيما يلي:
-
أن
النص الشعري وردت فيه جملة الاقتباس بوصفها نداءً أو مقول قول لله في أثناء يوم
القيامة (الحاضر) فلا يصح دلاليا دخول "يومئذ" فيها حيث إنها تحمل إشارة
إخبارية عن يوم القيامة (الغائب).
-
أما
النص القرآني فقد سيق بصيغة إخبارية عن يوم القيامة قال تعالى: "يوم ينفخ
في الصور ونحشر المجرمين زرقا"[xxxv]
فهو يخبر عن يوم النفخ في الصور وحشره المجرمين يومئذ زرقا أي أن يخبر عن "فعل"
إلهي في يوم القيامة (الغائب) فجاءت كلمة "يومئذ" لتشير إلى هذا اليوم
وتؤكده. أما النص الشعري فيخبر عن قول إلهي في يوم القيامة (الحاضر).
ومن
أوجه الحذف النادرة في الاقتباس حذف الفاعل عند بناء الفعل للمجهول كقول ابن
نُباتة:
|
إنسانُ عيْنِيَ أعْشَتْهُ مُكَابدةً |
|
وإنَّما خُلِقَ الإنسانُ في كَبَدِ[xxxvi] |
|
|
|
|
فجملة الاقتباس
" خلق الإنسان في كبد " أصلها القرآني "لقدْ خَلقْنَا الإنسانَ
في كبَد"[xxxvii]
فحذف الشاعر الفاعل (الضمير) وغير بنية الفعل "خَلَق" إلى المبني
للمجهول "خُلقَ" وليس الوزن وحده مسئولا عن هذا التغيير، فطريقة الخطاب
القرآني التي اتخذت ضمير المتكلم الجمعي، تختلف عن طريقة الخطاب الشعري الذي يتكلم
في جملة الاقتباس بصيغة الغائب، حيث لا يستقيم إسناد الفعل "خلق" في
عبارته للشاعر المتكلم.
ـ التصرف بالإضافة:
من الطبيعي أن يكون كل ما
يضيفه الشاعر إلى النص المقتبس متمما لوزن البيت، وسيأتي ما يؤيد هذا القول في
أثناء حديثنا عن أثر الاقتباس في موسيقى الشعر، وذلك لأن شعر هذا العصر كان ينتظم
على بحور الشعر العربي، وكل ما يضيفه الشاعر لنص الاقتباس يكون في إطار البحر الذي
ينظم عليه شعره، فلا مجال للشك إذن في أن أية إضافة من الشاعر يكون لها دور في
انتظام الاقتباس على وزن البحر الذي يتوخاه الشاعر.
ولكن المهمة التي
تؤديها عملية الإضافة لا تنحصر فقط في الجانب الموسيقي (الوزن)، بل إنها تشمل
جوانب أخرى تركيبية تتحكم في توجيه دلالة النص المقتبس في سياقه الشعري الجديد.
والإضافة
التي يكون لها وظيفة دلالية شواهدها كثيرة، ودورها الدلالي يأتي غالبا ليُحَوِّر
الاقتباس من سياقه القرآني إلى السياق الشعري كقول الحلي مادحا:
فبالإضافة إلى أن الشاعر
استخدم الصيغة الاسمية لكلمة "مَرَجُ" وهي في النص القرآني بالصيغة
الفعلية "مَرَجَ"، زاد الشاعر كلمتين أخريين ساعدتا على تحوير دلالة
النص وربطه بالممدوح، وهما: "من راحتيه"، وهاتان الكلمتان لهما دور
دلالي واضح يفقده السياق عند حذفهما. والشاعر حينما انتزع تعبيرا قرآنيا حقيقيا "مرج
البحرين يلتقيان"[xl]
وأراد توظيفه في الشعر وظفه بوصفه صورة فنية، فتطلب ذلك أن يربط بين هذا التعبير
التصويري وبين صاحبه، فزاد الشاعر الكلمتين (من راحتيه)، واختيار الشاعر للراحة في
سياق الكرم أمر مألوف في الشعر العربي، ولكي يُحِكم الربط بين الصورة وصاحبها أضاف
الكلمة إلى الضمير (الهاء) العائد على الممدوح، الذي بدأ الشاعر البيت بوصفه.
(الجواد السمح).
وقد يزيد الشاعر
الإضافة على جملة الاقتباس لتؤدي دورها السياقي، دون أن يغير شيئا آخر في النص
المقتبس، أي: أن التغيير يكون مقصورا على الإضافة بحيث لو حذفت لعاد الاقتباس
سالما، ويكون ذلك في النمط القولي غالبا كقول ابن نُباتة:
|
بشَّرَني الفَتحُ بِقصْدٍ بهِ |
|
بَدا على أصحابي النُّجْحُ |
فالاقتباس هنا تمثله
الجملة الشرطية في البيت الثاني، وقد بدأ البيت بـ قال، فهو لذلك نمط قولي، ثم ساق
جملة الاقتباس مضافا إليها ثلاث كلمات (في رجا خير) لأن أصل هذه الجملة في النص
القرآني "إنْ تستفتحُوا فقدْ جاءكُمُ الفتحُ"[xlii]،
وهذه الزيادة أو الإضافة تجعل جملة الاقتباس منسجمة في سياقها الشعري، مختصة
بممدوحه الذي ورّى باسمه (الفتح) منذ بداية البيت الأول. وكما أسهمت الإضافة أو
الزيادة (في رجا خير) في تخصيص الدلالة الشعري، فقد أسهمت التورية كذلك في التمهيد
للاقتباس، وصنع دلالة مزدوجة لجواب الشرط " فقد جاءكم الفتح"، ليدل على
اسم الممدوح من ناحية، أو على الفتح المعنوي الذي يفهم من السياق من ناحية أخرى.
وهذه الدلالة المزدوجة هي مطمح شعراء العصر من صناعة التورية.
ونادرا ما تمثل
الإضافة الجانب الوحيد للتغيير في نص الاقتباس، وبخاصة في النمط المضمن، فالغالب
أن يصاحب الإضافة جانب أو أكثر من جوانب التغيير، كأن يأتي معها حذف أو استبدال في
النص نفسه الذي زادت فيه الإضافة، ومع ذلك نجد بعض الشواهد النادرة من النمط
المضمن الذي لا يوجد فيها سوى تغيير طفيف إلى جانب الإضافة، كقول الحِلِّي
مستعطفا:
|
كيفَ أسْتنْجِدُ الشَّفاعةَ من قَوْ |
|
مٍ همُ في المقامِ عندكَ دُونِي |
والاقتباس في البيت الثاني من
قوله تعالى: "أأتَّخذُ من دُونهِ آلهةً إنْ يُردنِ الرَّحمنُ بضرٍّ لا
تُغني عنِّي شفاعتُهُم شيئاً ولا ينقذونِ"[xliv]
فالشاعر أضاف "من بأسكم" ولم يغير شيئا من بقية النص المقتبس سوى
استبداله "ليس" بـ "لا" ويبدو أن الوزن هو الذي دفع الشاعر
إلى هذا الاستبدال.
ويُلحظ في توظيف هذا
الاقتباس دلاليا أن الشاعر قد صنع توازيا بين شخصية الحاكم والصورة الإلهية، وهذا
يلقي بظلاله على العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذا العصر.
وقد تأتي الإضافة
بطريقة بديعية أشبه ما تكون بالتقسيم البديعي، وذلك عندما يأتي الاقتباس مكونا من
أكثر من جملة، فيضيف الشاعر إلى كل جملة على الترتيب ما يسهم في توجيه دلالتها حسب
سياقه الشعري، يمثل ذلك قول البوصيري في سياق المدح:
|
فقُلْ للرَّعايا لا تَخافُوا ظُلامَةً |
|
ولا تَحْزَنوا من حُكْمِ جَوْرٍ
وأبْشِرُوا[xlv] |
فأسلوب الخطاب "لا
تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا" أسلوب قرآني، جاء في النص القرآني على لسان
الملائكة يخاطبون به المؤمنين "إنَّ الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثُمَّ
استقاموا تتنزلُ عليهم الملائكةُ ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنَّةِ التي
كُنتُمْ تُوعَدُون"[xlvi]
فالاقتباس يشمل ثلاث جمل فعلية طلبية، اثنتان منها مسبوقتان بنهي، وفعلاها مضارعان
دلالتهما مطلقة، أي أن كلا منهما غير متعد بمفعول أو بجار ومجرور يقيد من دلالتها.
والثالثة فعلها أمر مقيد بجار ومجرور، "وأبشروا بالجنة......".
والشاعر حينما وظف
هذه الجمل الثلاث في البيت السابق قيد المفعول به للفعل: "تخافوا"، خصص
به الخوف فجعله خوف الظلم، وإضافة جار ومجرور ومضاف إليه خصص بها الحزن فجعله
الحزن من الحكم الجائر. وفي مقابل ذلك أطلق المقيد من خلال اكتفائه بالفعل "أبشروا"
دون إكمال الآية، ولا يعد هذا حذفا؛ لأننا – كما سبق – أوضحنا أن الحذف والإضافة إنما يقعان داخل نص الاقتباس وليس قبله
أو بعده، فالاقتباس محكوم بنص شعري يسبقه ويتلوه، وحجم الاقتباس غير محدد قد يكون كلمة،
أو كلمتين، أو جملة، أو عبارة، وقد يكون بعض آية أو آية أو أكثر من ذلك، وما دام
الأمر هكذا فلا يجب أن يعتد بالحذف والإضافة إلا داخل نص الاقتباس حتى يكون الأمر
محددا.
ومن فوائد الإضافة
التي تندرج تحت هدف تحوير الدلالة، أن تأتي لوصف شيء مما ورد في الاقتباس أو لمزيد
من الإيضاح والتأكيد كقول شيخ شيوخ حماة[xlvii]:
|
لئنْ خوَّفَتْنِي من تَجَنِّيهِ
عُذَّلٌ |
|
فإنَّ معَ العُسرِ الذي زَعَمُوا
يُسْرا |
فجملة الاقتباس هنا
"فإن مع العسر يسرا"[xlviii]
أضاف إليها الشاعر اسما موصولا وجملة للصلة يكمن دورها في الوصف والربط، حيث
وصفت العسر أولا بأنه مزعوم، ثم ربطت هذا الزعم بواو الجماعة العائدة على كلمة "عُذَّل"
التي أوردها الشاعر في الشطر الأول. وبذلك كان للإضافة دور كبير في تحوير دلالة
التركيب في سياق الشعر.
وقد لحظنا فيما تم
عرضه وتحليله من شواهد أن غاية الإبداع لدى الشاعر المقتبس تكمن في توجيه الجوانب
الدلالية للاقتباس، ونخلص من ذلك إلى أمرين:
أولهما: أن كل نص مقتبس وظِّف في النص
الشعري لابد أن يكون قد تعرض لنوع ما من التغير الدلالي، فإذا لم يكن ذلك في دلالة
أحد ألفاظه ففي الدلالة الخاصة بالتركيب، وإن لم يكن في الدلالة الخاصة بالتركيب،
ففي الدلالة العامة للنص الشعري، الذي يعد النص المقتبس جزءا فاعلا فيه.
ثانيهما:
أن التحوير أو التغيير في الدلالة لا يقتصر على جانب واحد من الجوانب السابقة، فقد
تتعدد جوانب التحوير في الاقتباس الواحد.
[i] -ابن نُبَاتَة (٦٨٦
- ٧٦٨ هـ = ١٢٨٧ - ١٣٦٦ م) محمد بن محمد بن محمد بن الحسن الجذامي الفارقيّ
المصري، أبو بكر، جمال الدين. (الأعلام للزركلي).
[ii] - ابن نباتة – ديوانه – 50.
[iii]
-والاكتفاء كما عرفه بن حجة" هو أن يأتي الشاعر بيت من الشعر وقافيته متعلقة
بمحذوف، فلم يفتقر إلى ذكر المحذوف لدلالة باقي لفظ البيت عليه، ويكتفي بما هو
معلوم في الذهن فيما يقتضي تمام المعنى، وهو نوع ظريف ينقسم إلى قسمين : قسم يكون
بجميع الكلمة، وقسم يكون ببعضها، والاكتفاء بالبعض أصعب مسلكا لكنه أحلى موقعا،
ولم أره في كتب البديع ولا في شعر المتقدمين " وواضح من خلال تعريف ابن حجة
للاكتفاء أن النوع المدعم بالاقتباس يكون أكثر تناسبا معه؛ وذلك لأن القرآن بوصفه
نصا مسيطرا كان ماثلا في أذهان
الناس،حاضرا لإتمام النص الشعري الموسوم بالاكتفاء ؛ لذلك ساق بعض الشواهد
التي جمعت بين الاكتفاء والاقتباس :" ومنه قول الشيخ صدر الدين بن عبد الحق،
ولم أكثر من هذا النوع إلا لأنه قليل في
أيدي الناس :
|
جَهنّمُ
حمَّامِكُمْ نارُها |
|
تُقَطِّعُ
أكبادَنا بالظَّما |
والاكتفاء هنا كان ببعض كلمة "ماء"
حيث حذفت الهمزة الأخيرة، وهذا الاكتفاء يعتمد على إكمال الآية " وإن يستغثوا
يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه...الآية "
ولأن المرصفي من النقاد المتأخرين فقد ذكر هو
الآخر الاكتفاء، وعرفه بأنه" هو الاقتصار على كلمة أو بعضها، أو من كلام على
جزء منه اقتصارا يشبه الاقتصار على بعض الكلمة، ونقل أهل هذا الفن ندرة وقوعه في
كلام العرب..... وأحسن الاكتفاء ما كان فيه بعض الكلمة المقتصر عليه كلمة تامة،
فيكون الكلام بذلك مشتملاً على التورية". انظر ابن حجة الحموي – خزانة الأدب – ص 223، 282.
[iv] - ابن نباتة – ديوانه – ص 476.
[v] - سورة يس- 27.
[vi] - ابن نباتة – ديوانه – ص 82.
[vii] - الانشقاق – 6.
[viii] - ابن نباتة – ديوانه – 108.
[ix]
- صَفِيِّ الدينِ
الحِلِّي (677 - 752 هـ / 1277 - 1339 م) هو أبو المحاسن عبد العزيز بن سرايا بن
نصر الطائي السنبسي. ولد
ونشأ في الحلة، بين الكوفة وبغداد. (انظر الأعلام للزركلي)
[x] - الحلي – ديوانه – ص 469.
[xi] - الإسراء- 85.
[xii] - الحلي – ديوانه – ص 209.
[xiii] - الرحمن – 26.
[xiv] - ابن نباتة – ديوانه – ص 255.
[xv] - البقرة – 184.
[xvi] - الطي والنشر هو أن
تذكر شيئين فصاعدا، إما تفصيلا فتنص على كل واحد منهما، وإما إجمالا فتأتي بلفظ
واحد يشتمل على متعدد، وتفوض إلى العقل رد كل واحد إلى ما يليق به، لا أنك تحتاج
أن تنص على ذلك ثم إن المذكور على التفصيل قسمان: قسم يرجع إلى المذكور، بعده على
الترتيب من غير الأضداد، لتخرج المقابلة، فيكون الأول للأول، والثاني للثاني، وهذا
هو الأكثر في اللف والنشر والأشهر، وقسم على العكس، وهو الذي لا يشترط فيه
الترتيب، ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى موضعه، تقدم أو تأخر. أما المذكور على
الإجمال فهو قسم واحد، لا يتبين فيه ترتيب، ولا يمكن عكسه، ومثاله أن يقول: لي منه
ثلاثة: بدر وغصن وظبي، فحصل من هذا أن اللف والنشر على ثلاثة أقسام، وإذا كان
المفصل المرتب في اللف والنشر هو المقدّم فمنه بين شيئين قوله تعالى: " ومن
رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله" فالسكون راجع إلى
الليل، والابتغاء راجع إلى النهار. ومنه قول الشاعر:
ألست أنت الذي من ورد
نعمته أو
ورد راحته أجني وأغترف
وقد
جمع هذا البيت، مع حشمة الألفاظ، بين جناس التحريف والاستعارة واللف والنشر. والطي
والنشر نوعان:
(أ) إما أن يكون النشر فيه على ترتيب الطيّ،
نحو قوله تعالى: (وَمِن رَّحۡمَتِهِۦ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ
وَٱلنَّهَارَ لِتَسۡكُنُوا۟ فِیهِ وَلِتَبۡتَغُوا۟ مِن فَضۡلِهِ) [القصص: 73]. وكقول
الشاعر:
|
عيونٌ
وأصداغٌ وفرعٌ وقامةٌ |
|
وخال
ووَجْنات وفرق ومرشفُ |
وكقوله:
فعل المُدام ولونها ومذاقها في
مقلتيه ووجنتيه وريقه
( ب) وإما أن يكون النشر على خلاف ترتيب الطي، نحو قوله تعالى: (فمحونا آية الليل
وجعلنا آية النهار مبصرة، لتبتغوا فضلا من ربكم، ولتعلموا عدد السنين والحساب).
ذكر ابتغاء الفضل للثاني، وعلم الحساب للأول، على خلاف الترتيب كقول الشاعر:
ولحظه ومحيــّـاه وقامتـــه بدر الدجى وقضيب البان
والراحُ
بدر الدجى راجع إلى (المحيا) الذي هو
الوجه و(القضيب البان) راجع إلى (القامة) والراح راجع إلى اللحظ ويسمي (اللف
والنشر). ابن حجة –
جـ 1 –
ص 149. ومعجم البلاغة – ص 396.
[xvii] - ابن نباتة – ديوانه – ص 245.
[xviii] - الحج – 23.
[xix] - ابن نباتة – ديوانه – ص 534.
[xx] - الذاريات – 17.
[xxi] - مراعاة النظير،
وتسمى أيضا: التناسب، والتوافق والائتلاف: هي الجمع بين أمرين أو أمور متناسبة لا
على جهة التضاد، وذلك إما بين اثنين نحو قوله تعالى: "وهو السميع
العليم" وإما بين أكثر نحو قوله تعالى: "أولئك الذين اشتروا الضلالة
بالهدى فما ربحت تجارتهم"، ونحو قوله تعالى: "الشمس والقمر بحسبان. والنجم
والشجر يسجدان"، والنجم هنا: هو النبات الذي ينجم أي يظهر من الأرض لا ساق له
كالبقول، والشجر: الذي له ساق. فالنجم بهذا المعنى وإن لم يكن مناسبا للشمس والقمر؛
لكنه قد يكون بمعنى الكوكب وهو مناسب لهما، وفي هذه الحالة يكون المثال من قبيل "إيهام
التناسب" وبالمعنى الأول يكون التناسب بين الشمس والقمر وبين النجم والشجر.
ويلحق بمراعاة النظير ما بُني على المناسبة في المعنى بين طرفي الكلام، يعني أن يُختم
الكلام بما يناسب أوله في المعنى، نحو قوله تعالى: "لا تدركه الأبصار، وهو
يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير" فإن كلمة "اللطيف" تناسب عدم
إدراك الأبصار له، و"الخبير" تناسب إدراكه سبحنه وتعالى للأبصار."
معجم البلاغة – مراعاة النظير – ص 261.
[xxii] - ابن نباتة – ديوانه – ص 248.
[xxiii] - البقرة – 24.
[xxiv] - الشاب الظريف – ديوانه – 246.
[xxv] - الحج – 2.
[xxvi] - الحج – 2.
[xxvii] - ابن نباتة – ديوانه – 118.
[xxviii] - الحلي – ديوانه – ص 409.
[xxix] - المائدة – 45.
[xxx] - الحلي – ديوانه – ص 383.
[xxxi] - الأنفال – 17.
[xxxii] - ابن نبات – ديوانه – ص 358.
[xxxiii] - طه – 102.
[xxxiv] -يقول ابن الأثير: (وحقيقة
أن يبني الشاعر البيت من شعره على قافية قد أرصدها له، أي أعدها في نفسه، فإذا
أنشد صدر البيت عرف ما يأتي به في قافيته ) ابن الأثير – المثل السائر – جـ 2 – ص 329.
[xxxv] - طه – 102.
[xxxvi] - ابن نباتة – ديوانه – ص 125.
[xxxvii] - البلد – 4.
[xxxviii] - المَرَجُ محركة:
الاختلاط والاضطراب. وإنما يسكن مع الهرج. انظر القاموس المحيط مادة (مرج).
[xxxix] - الحلي – ديوانه – ص 208.
[xl] - الرحمن – 19.
[xli] - ابن نباتة – ديوانه – ص 119.
[xlii] - الأنفال – 19.
[xliii] - الحلي – ديوانه – ص 613.
[xliv] - يس- 23.
[xlv] - البوصيري – ديوانه – ص 159.
[xlvi] - فصلت – 30.
[xlvii]- د. زغلول سلام – الأدب في العصر المملوكي – جـ3 –
ص 445.
[xlviii] - الشرح – 5.

تعليقات
إرسال تعليق