تأليف الشيخ/ أحمد بن عطاء الله السكندري
الحمد لله المنفرد بالخلق والتدبير، الواحد في الحكم والتقدير، الملك الذي ليس له في ملكه وزير، الملك الذي لا يخرج عن ملكه صغير ولا كبير.
المتقدس في كمال وصفه عن الشبيه والنظير، المنزه في كمال ذاته عن التمثيل والتصوير، العليم الذي لا يخفى عليه ما في الضمير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
العالم الذي أحاط علمه بمبادىء الأمور ونهاياتها، السميع الذي لا فضل في سمعه بين ظاهر الأصوات وخفاياتها، الرازق وهو المنعم على الخليقة بإيصال أقواتها، القيوم المتكفل بها في جميع حالاتها.
الوهاب وهو الذي منَّ على النفوس بوجود حياتها، القدير وهو المعيد لها بعد وجود وفاتها، الحسيب وهو المجازي لها يوم قدومها عليه بحسناتها وسيئاتها.
فسبحانه من إله منَّ على العباد بالجود قبل الوجود، وقام بهم بأرزاقهم على كلتا حالاتهم من إقرار وجحود، ومدّ كل موجود بوجود عطائه، وحفظ وجود العالم بأمداد بقائه، وظهر بحكمته في أرضه وقدرته في سمائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبد مفوض لقضائه، مسلم له في حكمه وإمضائه.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المفضل على جميع أنبيائه، المخصوص بجزيل فضله وعطائه، الفاتح الخاتم وليس ذلك لسواه.
الشافع لكل العباد حين يجمعهم الحق لفصل قضائه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المستمسكين بولائه، وسلم كثيرا.
اعلم يا أخي، جعلك الله من أهل حبه وأتحفك بوجود قربه، وأذاقك من شراب وده، وأمَّنك بدوام وصلته من إعراضه وصده، ووصلك بعباده الذين خصهم بمراسلاته وجبر كسر قلوبهم لما علموا أنه لا تدركه الأبصار لنور تجلياته. وفتح لهم رياض القرب وهبَّ منها على قلوبهم واردات نفحاته.
أشهدهم سابق تدبيره فيهم فسلموا إليه القياد، وكشف عن خفي لطفه في منعه فتركوا المنازعة والعناد.
فهم مستسلمون إليه، ومتوكلون عليه.
أما بعد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "يحشر المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".
فإذا علمت أيها الأخ الشقيق، فلا تخالل إلا من ينهضك حاله، ويدلك على الله مقاله، وذلك هو الفقير المتجرد عن السوى، المقبل على المولى. فليست اللذة إلا مخاللته، ولا السعادة إلا خدمته ومصاحبته.
فلذلك قال الشيخ العارف المتمكن أبو مدين رضي الله تعالى عنه:
(ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا * هم السلاطين والسادات والأمرا)
أي ما لذة عيش السالك في طريق مولاه إلا صحبة الفقراء، والفقراء جمع فقير، والفقير هو المتجرد عن الخلائق، المعرض عن العوائق، لم يبق له قبلة ولا مقصد إلا الله تعالى، وقد أعرض عن كل شيء سواه، وتحقق بحقيقة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فمثل هذا مصاحبته تذيقك لذة الطريق، وتريق في جميع فؤادك من شراب القوم أهنى رحيق، ويعرفك الطريق، ويقطع لك العتاب، ويزيل عن قلبك التعويق، وينهضك بهمته، ويرفعك إلى أعلا الدرجات.
ومن كان كذلك فهو السلطان على الحقيقة، والسيد على أهل الطريقة، والأمير على أهل البصيرة، فلا تخالف أيها السالك طريقه، فاجتهد أيها السالك المجد في تحصيل هذا الرفيق، واصحبه وتأدب في مجالسه، ويزيل عنك ببركة صحبته كل تعويق، كما قال رضي الله عنه:
(فاصحبهم وتأدب في مجالسهم * وخلِّ حظك مهما قدموك ورا)
أي اصحب الفقراء وتأدب معهم في مجالسهم؛ فإن الصحبة شبح والأدب روحها. فإذا اجتمع لك بين الشبح والروح حزت فائدة صحبته، وإلا كانت صحبتك ميتة، فأي فائدة ترجوها من الميت؟
ومن أهم آداب الصحبة أن تخلف حظوظك وراك، ولا تكن همتك مصروفة إلا لامتثال أوامرهم، فعند ذلك يشكر مسعاك، فإذا تخلقت بذلك فبادر واستغنم الحضور، وأخلص في ذلك ترفع درجتك، وتعلو همتك ويجافيك القصور، كما قال رضي الله عنه:
(واستغنم الوقت واحضر دائما معهم * واعلم بأن الرضى يختص من حضرا)
أي واستغنم وقت صحبة الفقراء واحضر دائما معهم بقلبك وقالبك تسري إليك زوائدهم وتغمرك فوائدهم، وينضج ظاهرك بالتأدب بآدابهم ويشرق باطنك بالتحلي بأنوارهم، فإن من جالس جانس، فإن جلست مع المحزون حزنت، وإن جلست مع الذاكرين انتبهت من غفلتك، وسرت إليك اليقظة، فإنهم القوم لا يشقى جليسهم، فكيف يشقى خادمهم ومحبهم وأنيسهم.
لي سادة من عزهم * أقدمهم فوق الجباه
إن لم أكن منهم فلي * في حبهم عز وجاه
واعلم أن هذا الرضى وهذا المقام يخص من حضر معهم بالتأدب وخرج عن نفسه وتحلى باللذة والانكسار، فاخرج عنك إذا حضرت بين أيديهم وانطرح وانكسر إذا حللت بناديهم، فعند ذلك تذوق لذة الحضور.
واستعن على ذلك بملازمة الصمت تشرق لك أنوار الفرح ويغمرك السرور كما قال رضي الله عنه:
(ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل * لا علم عندي وكن بالجهل مستترا)
فالصمت عند أهل الطريقة من لازمه ارتفع بنيانه وتم غراسه، وهو نوعان: صمت باللسان، وصمت بالجنان، وكلاهما لا بد منه في الطريق، فمن صمت قلبه ونطق لسانه نطق بالحكمة، ومن صمت لسانه وصمت قلبه تجلى له سره وكلمه ربه، وهذا غاية الصمت. وكلام الشيخ قابل لذلك، فالزم الصمت أيها السالك إلا إن سئلت، فإن سئلت فارجع إلى أصلك ووصلك وقل لا علم عندي واستتر بالجهل تشرق لك أنوار العلم اللدني، فإنك مهما اعترفت بجهلك ورجعت إلى أصلك لاحت لك معرفة نفسك، فإذا عرفتها عرفت ربك كما روي في الحديث "من عرف نفسه عرف ربه"، وكل ذلك من فوائد الصمت لزوم آدابه، فاصمت وتأدب ولازم الباب تكن من أحبابه.
لا أبرح الباب حتى تصلحوا عوجي * وتقبلوني على عيبي ونقصاني
فإن رضيتم فيا عزي ويا شرفي * وإن أبيتم فمن أرجو لعصياني
فانهض أيها الأخ إلى باب مولاك بهمة علية وتحقق بعبوديتك تشرق عليك أنواره السنية، كما أشار إلى ذلك الشيخ رضي الله عنه بقوله:
ولا ترى العيب إلا فيك معتقدًا * عيبًا بدا بينًا لكنه استترا
أي تحقق بأوصافك من فقرك وضعفك وعجزك وذلتك، فإذا تحققت بأوصافك وشهدت لنفسك عيوبًا لكنها مستترة، فعند ذلك تحظى بظهو أوصاف مولاك فيك، كما قيل "سبحان من ستر سر الخصوصية في ظهور البشرية، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية".
وافهم من هنا سر معنى قوله (سبحان الذي أسرى بعبده)، ولم يقل برسوله ولا بنبيه. أشار إلى ذلك المعنى الرفيع الذي لا يُنال إلا من العبودية. ولذلك قيل:
لا تدعني إلا بيا عبداها * فإنه أشرف أسمائي
فانكسر أيها الأخ، وانطرح بالطريق، ولا ترى لك حالا ولا مقالا يزل عنك كل تعويق، واستغفر من كل ما يخطر بقلبك في عبوديتك، وقم على قدم الاعتراف، وانصف من نفسك تبلغ أعلا درجات المنازل، وتفنى بشريتك. كما قال رضي الله عنه:
وحطّ رأسك واستغفر بلا سبب * وقف على قدم الانصاف معتذرًا
أي تواضع وانكسر وحط أشرف ما عندك وهو رأسك في أخفض ما يكون وهي الأرض لتحوز مقام القرب، كما ورد في الحديث (أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى وهو ساجد)، لأن قرب العبد بتواضعه وانكساره وخروجه عن أوصاف بشريته.
واشهد نفسك دائما مذنبًا زلز لم يظهر عليك سبب الذنب، فإن العبد لا يخلو من تقصير، وقف على قدم الانصاف من ذنوبك خجلا من سيئاتك وعيوبك، فإن من عامل المخلوق هذه المعاملة أحبه ولم يشهد له ذنبًا، وكانت مساويه عنده محاسن، فكيف إذا عامل بهذه المعاملة صاحبه الحقيقي الذي إذا تحققه ليس له صاحب سواه. كما ورد في الحديث (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد)، فتأهب أيها الأخ لهذه المعاملة مع إخوانك الفقراء لتصير لك معراجا تتوصل بها إلى معاملة رب السماء، وتكون مقبولا عند الخلق والخالق، وتصفو لك المعاملة وتشرق عليك أنوار الحقائق. قال رضي الله عنه:
وإن بدا منك عيب فاعتذر وأقم * وجه اعتذارك عما فيك منك جرى
وقل عبيدكمو أولى بصفحكمو * فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا
هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم * فلا تخف دركا منهم ولا ضررا
أي ليكن شأنك دائمًا التواضع والانكسار وطلب المعذرة والاستغفار سواء وقع منك ذنب أو لم يقع، وإن بدا منك عيب أو ذنب فاعترف واستغفر فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وليس الشأن أن لا تذنب إنما الشأن أن لا تصر على الذنب، كما ورد "أنين المذنبين عند الله خير من زجل المسبحين عجبا وافتخارا".
ولذلك قلت في "الحِكم": ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وقضي عليك بالذنب، وكان سببا لوصول. ورب معصية أورثت ذلًا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا.
ومع اعترافك واستغفارك أقم وجه اعتذارك عما جرى منك فيكون ذلك ممحي للذنب، وادخل في القبول وذل وتواضع وانكسر وقل عبيدكم أولى بصفحكم لأن العبد ليس له إلا باب مولاه.
ألقيت في بابكم عناني * ولم أبال بما عناني
فزال قبضي وزاد بسطي * وانقلب الخوف بالأماني
فسامحوا عبيدكم يا فقرا وخذوا بالرفق وعاملوني به فإني عبد فقير لا يصلحني إلا المعاملة بالرفق والفضل، ولا اعتماد لي إلا على الفضل لا بحولي ولا قوتي، فمذهبي العجز والسلام.
قال رضي الله عنه إنهم أولى بهذا الشيء وهو شيمتهم، ولم يزلوا متفضلين، وهذه معاملتهم مع أصحابهم وهي سجيتهم، وكيف لا تكون سجيتهم وهو متخلقون بأخلاق مولاهم. كما ورد "تخلقوا بأخلاق الله"، فلا تخف منهم ضررًا أيها السالك المصاحب لهم، وتمسك بأذيالهم فإنهم القوم لا يشقى جليسهم، فإذا عرفت ذلك أيها السالك فتخلق بأخلاقهم الكريمة، وجد بالتفتي على الإخوان، وغض الطرف عن عثرتهم تكن آخذا من أوصافهم أحسن هيئة.
قال رضي الله عنه:
وبالتفتي على الإخوان جد أبدًا * حسًا ومعنى وغض الطرف إن عثرا
أي وتكرم على إخوانك وجُد عليهم أبدا. أما في الحس فببذل الأموال، وأما في المعنى فبصرف همة الأحوال، ولا تبخل عليهم بشيء يمكنك إيصاله إليهم، فإن السماحة لب الطريق، ومن تخلق بها فقد زال عن قلبه كل تعويق.
قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: إخواني، ما وصلت إلى الله تعالى بقيام ليل ولا صيام نهار ولا دراسة علم، ولكن وصلت إلى الله بالكرم والتواضع وسلامة الصدر.
فدل كلام الشيخ رضي الله عنه أن الكرم هو الأساس، وأن التواضع يتم للسالك به الغراس. فإذا تم له هذان الأمران سلم صدره من العوائق، وزال عن طريقه كل عائق.
ولذلك ورد في الحديث "إن في الجنة لغرفًا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام"، فتأمل هذا الحديث يا أخي حيث بدأ صلى الله عليه وسلم بإلانة الكلام، وهو إشارة إلى التواضع، ثم ثنى بإطعام الطعام وهو إشارة إلى الكرم، ثم أتى بعد ذلك بالصلاة والصيام، كما أشار إليه الشيخ عبد القادر، فانهض أخي إلى هذه المآثر، وبادر واجمع معها حسن مكارم الأخلاق، وغض الطرف عن مساويء الإخوان، وإن وقفت منهم على عثرة، ولا تشهد إلا محاسنهم، كما قال رضي الله عنه في حكمه الفتوحية: رؤية محاسن العبيد والغيبة عن مساويهم، ذلك شيء من كمال التوحيد.
كما قيل:
إذا ما رأيت الله في الكل فاعلا * رأيت جميع الكائنات ملاحا
فإذا تخلقت أيها الأخ بهذه الخصال الشريفة فقد تأهلت للإقبال على الشيخ فانهض إلى عتبة بابه، وراقبه بهمة منيفة، كما أشار إلى ذلك الشيخ رضي الله عنه:
وراقب الشيخ في أحواله فعسى * يُرى عليك من استحسانه أثرا
أي إذا تخلقت بما تقدم من الآداب، ووصلت بافتقارك وانكسارك إلى الشيخ، وتمسكت بأثر تلك الأعتاب، فراقب أحواله، واجتهد في حصول مراضيه، وانكسر واخضع له في كل حين، فإنه الترياق والشفاء، وإن قلوب المشايخ ترياق الطريق، ومن سعد بذلك تم له المطلوب، وتخلص من كل تعويق.
واجتهد أيها الأخ في مشاهدة هذا المعنى فعسى يُرى عليك من استحسانه لحالك أثرًا.
قال بعضهم: من أشد الحرمان أن تجتمع مع أولياء الله تعالى ولا ترزق القبول منهم، وما ذلك إلا لسوء الأدب منك، وإلا فلا بخل من جانبهم ولا نقص من جهتهم.
كما قلت في الحكم: ما الشأن وجود الطلب، إنما الشأن أن تورث حسن الأدب.
زار بعض السلاطين ضريح أبي يزيد رضي الله عنه، وقال: هل هنا أحد ممن اجتمع بأبي يزيد؟ فأشير إلى شيخ كبير في السن كان حاضرا هناك، فقال له: هل سمعت شيئا من كلامه؟ فقال نعم، قال: من زارني لا تحرقه النار، فاستغرب السلطان ذلك الكلام، فقال: كيف يقول أبو يزيد ذلك، وأبو جهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو تحرقه النار!
فقال ذلك الشيخ للسلطان: أبو جهل لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، إنما رأى يتيم أبي طالب، ول رآه صلى الله عليه وسلم لم تحرقه النار.
ففهم السلطان كلامه وأعجبه هذا الجواب منه.
أي أنه لم يره بالتعظيم والإكرام واعتقاد أنه رسول الله ولو رآه بهذا المعنى لم تحرقه النار، ولكنه رآه باحتقار واعتقاد أنه يتيم أبي طالب، فلم تنفعه تلك الرؤية.
وأنت يا أخي لو اجتمعت بقطب الوقت ولم تتأدب لم تنفعك تلك الرؤية بل كانت مضرتها عليك أكثر من منفعتها.
إذا فهمت ذلك أيها السالك، فتأدب بين يدي الشيخ، واجتهد أن تسلك أحسن المسالك، وخذ ما عرفت بجد واجتهاد، وانهض في خدمته، وأخلص في ذلك لتسد مع من ساد. كما قال:
وقدّم الجد وانهض عند خدمته * عساه يرضى وحاذر أن تكن ضجرا
ففي رضاه رضى الباري وطاعته * يرضى عليك فكن من تركه حذرا
أي وانهض في خدمة الشيخ بالجد فعساك تحوز رضاه فتسود مع من ساد، واحذر أن تضجر ففي الضجر الفساد، ولازم أعتاب بابه في الصباح والمساء لتحوز منه الوداد، وما أحسن ما قيل:
اصبر على مضض الإدلاج في السحر * وللنذور على الطاعات بالبكر
وقلَّ من جدّ في أمر يؤمله * ما استصحب الصبر إلا فاز بالظفر
فإن ظفرت أيها السالك برضاه رضي الله تعالى عنك ونلت فوق ما تمنيت، فاستقم أيها الأخ في رضى شيخك وطاعته تظفر بطاعة مولاك ورضاه، وتفوز بجزيل كرامته.
فعض أيها الأخ بالنواجذ على خدمة الشيخ إن ظفرت بالوصول إليه، واعلم أن السعادة قد شملتك من جميع جهاتك إذا عرفك الله تعالى به، وأطلعك تعالى عليه، فإن الظفر به لا سيما في هذه الأيام أعز من الكبريت الأحمر.
واعلم أن طريق القوم دارسة، وحال من يدعيها كما ترى، لكن إذا ساعدتك العناية ظفرت وشممت من نفحة طيبه ما يفوق المسك الأذفر، ولذلك قال رضي الله عنه وعنا به آمين:
واعلم بأن طريق القوم دارسة * وحال من يدعيها اليوم كيف ترى
متى أراهم وأنى لي برؤيتهم * أو تسمع الأذن مني عنهم خبرا
من لي وأنى لمثلي أن يزاحمهم * على موارد لم آلف بها كدرا
أحبهم وأداريهم وأوثرهم * بمهجتي وخصوصًا منهم نفرا
شرع الشيخ رضي الله عنه يشوق السالكين إلى طريق أهله ويخبرهم أن طريقهم دارسة وحال من يدعيها اليوم كما نرى في الفترة حتى كادت الهمم أن تكون من الطلب آيسة، وهكذا شأن طريق القوم لعزتها، كأنها في كل عصر مفقودة ولا يظفر بها إلا الفرد بعد الفرد، وهذه سنة معهودة.
وذلك أن الجوهر النفيس لا يزال عزيز الوجود يكاد لعزته يحكم بأنه ليس بموجود.
والطريق أهلها مخفية في العالم خفاء ليلة القدر في شهر رمضان، وخفاء ساعة الجمعة في يومها، حتى يجتهد الطالب في طلبه بقدر الإمكان، فإن من جد وجد، ومن قرع الباب ولج ولج.
قلت: كيف تأمرنا بذلك، وقد قيل إن وجود الشيخ كالكبريت الأحمر، وكالعنقاء من ذا الذي بوجودها يظفر؟
وكيف تأمرني بتحصيل من هذا شأنه؟
فقال: لو صدقت في الطلب وكنت في طلبه كالطفل والظمآن لا يقر لهم قرار ولا تسكن لوعتهم حتى يظفروا بمقصودهم.
فأشار الشيخ رضي الله عنه إلى أن الشيخ موجود، وكيف لا يكون موجودًا وعمارة العالم إنما هي بأمثاله؛ فإن العالم شخصٌ والأولياء روحه، فما دام العالم موجودًا لا بد من وجودهم، لكن لشدة خفائهم وعدم ظهورهم حكم بفقدانهم، فاجتهد أيها الأخ واصدق في الطلب تجد المطلوب، واستعن على ذلك الطلب بمدد علام الغيوب، فإن الظفر لا يحصل إلا بمجرد فضله، وإذا أوصلك إلى الشيخ فقد أوصلك إليه، كما قلت في الحكم: سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه.
ثم إن الشيخ رضي الله عنه لما ذكر عزة الطريق وفقدان أهلها شرع يتأسف على الاجتماع بهم ويتمناه ويستبعد من نفسه حصول ذلك والتشرف بلقائه تواضعًا منه وانكسارًا وهضما لنفسه واحتقارا، ولذا قال بعد ذلك (من لي وأنى لمثلي أن يزاحمهم..)، وهذا شأن العارف لنفسه بنفسه، الممتليء من معرفة ربه، المتحلي بواردات قدسه، لأنه لا يرى لنفسه حالا ولا مقالا، بل يرى نفسه أقل من كل شيء، وهذا هو النظر التام كما قيل:
إذا زاد علم المرء زاد تواضعًا * وإذا زاد جهل المرء زاد ترفعًا
وفي الغصن من حمل الثمار مناله * فإن يعر عن حمل الثمار تمنعا
فانظر إلى الشيخ أبي مدين ورفعته في الطريق مع أنه وصل من تربيته إثنى عشر ألف مريد وانظر إلى هذا التنزل منه والتدلي بأغصان شجرة معرفته إلى أرض الخضوع والانكسار حتى أنه لم ير نفسه أهلا للاجتماع بأهل هذه الطريقة، ويزيده هذا الانخفاض من الارتفاع لأن الشجرة لا يزيدها انخفاضها في عروقها إلا ارتفاعًا في رأسها.
فتواضع أيها الأخ في الطريق، وخذ هذا الأصل العظيم من هذا العارف المتمكن يزل عنك كل تعويق.
ثم قال رضي الله عنه بعد ذلك (أحبهم وأداريهم وأوثرهم..)، أي وإن لم أكن أنا منهم فإني أحبهم، ومن أحب قوما فهو منهم، كما ورد في الحديث "المرء مع من أحب"، وكما قيل:
أحب الصالحين ولست منهم * لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من كانت بضاعته المعاصي * وإن كنا سواء في البضاعة
وهذا أيضًا منه رضي الله عنه من تمام التنزل السابق، وتكميلا وتتميما، ولهذا تواضع الذي لم يلحق جواد شرفه في ميدانه لاحق، نفعنا الله تعالى ببركاته ووفقنا من معاملاته، لأن هذه خصال القوم وصفاتهم، ولذلك ارتفعت رتبهم وجزلت عطيتهم، كما وصفهم رضي الله عنه بقوله:
قوم كرام السجايا حيث ما جلسوا * يبقى المكان على آثارهم عطرا
يهدي التوصف من أخلاقهم طرقا * حسن التألف منهم راقني نظرا
هم أهل ودّي وأحبابي الذين هم * ممن يجر ذيول العز مفتخرًا
لا زال شملي بهم في الله مجتمعًا * وذنبنا فيه مغفورًا ومغتفرًا
ثم الصلاة على المختار سيدنا * محمد خير من أوفى ومن نذرا
أي: هم قوم سجاياهم كريمة، وهمتهم عظيمة حيث ما جلسوا تبقى آثار نفحات عطرهم في المكان ظاهرة، وأين ما توجهوا سطع شمس معارفهم فتشرق القلوب وتصلح بهم الدنيا والآخرة.
يهدي التصوف للسالك المشتاق من أخلاقهم طرقا مجيدة تدل على الطريق، ويسير في سلوكه سيرة حميدة، فلذلك جمعوا أحسن تأليف حتى راق كل ناظر وجد، وفي أكمل معنى لطيف حتى اكتحلت بكحل أثمدهم أنوار البصائر، ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه بعد ذلك: (هم أهل ودي وأحبابي..)، فإن الشخص لا يحب إلا من جانسه، ولا يود إلا من كان بينه وبينه مؤانسة، وفي هذا الكلام إشارة إلى أنه رضي الله تعالى عنه من جملتهم وطينته من طينتهم، وما تقدم منه في التواضع والانكسار دليل على التحقيق في هذا المجد والفخار كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
فنسأل الله تعالى أن يسلك بنا أحسن المسالك، ثم دعا وسأل أنه لا يزال شمله مجتمعا بهم في الله تعالى وذنبه مغفورا، ونحن نسأله أيضا إتمام الصلاة والسلام على سيدنا محمد المختار، خير من أوفى ومن نذر ومن أكرم الجار، وعلى آله وصحبه السادة الأبرار، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم القرار.
وهذا الرقم لِمنْ تعطش ليله في معاني هذه الأبيات، وإلا فنحن معترفون بالعجز والتقصير عن معانيها وإنما الأعمال بالنيات، والله أعلم.
تعليقات
إرسال تعليق